لم تكن الفلسفة قط أحد موجودات المجتمعات البشرية عبر التاريخ، نعم، كان الشّعر كذلك، فلم تكد أمة تخلو من شعر، لكن الفلسفة هي بنت المدينة فقط. لا تبزغ شمسُ الفلسفة إلا على مدينة بلغت من التحضر أوجه، وكمُلت لها هويتها الذاتية وشخصيتها اللغوية، وأدركت من الاستقرار والوفرة ما تسمح به للعقول المفكرة أن تنطلق إلى البحث عن كمالاتها الممكنة. وقد أصبح تَحَضُّر المدينة يقاس، عند ديكارت، بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها.
ولم تشذ المدينة الإسلامية عن ذلك، إذ نجد هذه المدينة وقد استقرّت، تشرع الأبواب لفعل التفلسف، والنّكتة هنا، أن هذا الحدث الفريد ارتبط في مجتمعاتنا الإسلامية بالملوك والأمراء الذين كان لهم الدور الحاسم في البداية الفلسفية وفي النّهاية الفلسفية أيضاً، ففي البداية الفلسفية كان هناك الأمير خالد بن يزيد، «حكيم قريش»، كما سُمّي، أخطأته الخلافة فأدركه العلم، وانصرفت همته إلى الفلسفة ففتح لها الباب من طريق الكيمياء، العلم الذي شغف به، وكتب فيه. ولعل هذا الفعل الأميري أسس تقليداً جديداً في المدينة الإسلامية للاهتمام بالعلوم القديمة سيكون له ما بعده، فهذا الخليفة المنصور العباسي، وقد أصبحت للحضارة الإسلامية صولة وهيبة، يقرب إليه الطبيب بختيشوع ويُحرّضُه على ترجمة الكتب الطبية، ففتح باباً للفلسفة عن طريق الطب، فقد كان «الطبيبُ الفاضل فيلسوف ضرورة»، كما قال جالينوس. 
لكن المدينة الإسلامية ستعرف أوجها الفلسفي الأول والأكبر مع الخليفة المأمون الذي شجّع على ترجمة كتب الفلسفة، وأنفق بسخاء على «بيت الحكمة»، حيث حشد له خيار المترجمين وأمدّهم بأنْفس الكتب الفلسفية لتتم أضخم عملية ترجمة في تاريخ المسلمين لعلوم الأوائل، ستكون لها تداعيات عظيمة على الحقل الثقافي والعلمي العربي والإسلامي. فكان من ثمار فعل الترجمة ظهور الفلاسفة الكبار، «فيلسوف العرب الأول»، ثم «المعلم الثاني»، ثم «الشيخ الرئيس»، ثم «حجة الإسلام»، وغيرهم من متفلسفة المسلمين. وقد تسربت الفلسفة، بهذا الفعل، إلى جميع العلوم الإسلامية، وكان لمسِّها فعلٌ عجيب فيها، نقلت بعضها إلى مستوى من التجريد والتنظير كبير، فأرفقتها بقافلة العلوم النظرية. وكلُّ ذلك كان بفضل الخليفة المأمون، وغيره من آبائه، من خلفاء بني العباس المتنوّرين.
وكانت النهاية الفلسفية، بمعنى من المعاني، في الأندلس، حيث أشرقت شمس الفلسفة بفضل ملكين كبيرين من ملوك الأندلس، أولها أموي، وهو الحكم، الذي شجّع النظر العقلي وجلب من المشرق كتب الفلسفة، وكانت مكتبته أضخم مكتبة في الأندلس، تحوي أنفس الكتب الفلسفية التي أشاعت فعل التفلسف. وقد كان لفعل هذا الخليفة المتنور أثر كبير على تطور الفكر الفلسفي في الأندلس، أفاد منه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، الذي لمّا عاين صعوبة العبارة الفلسفية الأرسطية، كلَّفَ ابن رشد برفع قلق هذه العبارة، فتمّت، تحت مظلة الخلافة الموحدية، أضخم عملية لقراءة أرسطو تلخيصاً وشرحاً، سيكون لها أثر جارف على الغرب اللاتيني على الخصوص، فتنطلق بسببها البداية المهمة لمسيرة الفكر النظري عنده.
إن الخيرات الفلسفية تكثر في المدينة عندما تشرف همم أمرائها إلى فعل التفلسف، كذلك وصف المراكشي حال يوسف بن عبد المؤمن، فعندما شرفت همة هذا الخليفة المتنور إلى العناية بالفلسفة هيأ الظروف لابن رشد لإنتاج خيرات فلسفية طبقت العالمين.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية