في 31 مارس الماضي، وقَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العقيدةَ الخارجيةَ الجديدةَ لبلاده، والتي تحل محل الوثيقة المرجعية الصادرة عام 2016. الوثيقة الجديدة من 42 صفحة، وتدور بوضوح حول مواجهة «الخطر الغربي» بصفته «تهديداً وجودياً» لروسيا، مع النص على ضرورة توثيق التحالف مع الصين والهند من حيث هما «محوران دوليان للسلطة والتنمية» جديران بالثقة والصداقة.

ما يميز الرؤيةَ الجديدةَ الصادرةَ عن حكومة موسكو هو النص بجلاء على أن روسيا ليست دولةً تقليديةً عاديةً، بل هي «دولة - حضارة» يتجاوز مجالُها الحدودَ الضيقة للفيدرالية الروسية، ومن ثم فإنها تضع في سلّم أولوياتها الدفاع عن «العالم الروسي» بمقوماته الثقافية والقيمية في مواجهة «التهديد الغربي».

ليس هذا التوجه جديداً بالكامل، فمنذ اندلاع الحرب الأوكرانية قرأنا لمفكرين وأقلام عديدة روسية نفس التوجه المتمحور حول المقاييس الحضارية، من منظور التمايز الجوهري بين القيم الأورثوذكسية القومية الروسية المؤسَّسة على التقليد والسلطة والأسرة، في مقابل «العدمية الغربية» بميولها الفردية ونمطها الاستهلاكي النفعي ونهجها التفكيكي للمرجعيات والهويات المجتمعية العضوية. ما استجد مع الحرب الأوكرانية الأخيرة هو المقاربة المتمثلة في استقطاب المجتمعات والثقافات غير الغربية في مبادرة لإقامة تحالف واسع تقوده روسيا ضد «الهيمنة الغربية».

وقد بسط هذه الأطروحة الباحث السياسي والاستراتيجي «فيودور لوكيانوف» في مجلة «السياسة الروسية الشاملة» (2 نوفمبر 2022)، معتبِراً أن على روسيا أن تقنع دولَ «العالم الثالث» بكونها خط الحماية الناجع ضد سيطرة الغرب، وبأنها قادرة على تقديم النموذج البديل عن المركزية الغربية المهيمنة.

الهدف العملي المطروح هنا هو إقامة نظام دولي عادل يحترم سيادةَ الدول وخصوصياتِها الثقافية دون تدخل أو تحكم باسم القيم الليبرالية الكونية. وإذا كانت روسيا تشترك مع أوروبا وأميركا الشمالية في الخلفيات المرجعية البعيدة، أي التقليد اليهودي المسيحي، ولو من منظور تاريخي وعقدي مختلف، فإن الخطاب الرسمي الصيني يتبنى المسلكَ ذاتَه، باسم الحداثة الحضارية الذاتية البديلة عن النموذج الغربي.

وفي هذا السياق، قرأنا لمفكرين وفلاسفة صينيين كتاباتٍ عديدةً، تتحدث عن الفروق الجوهرية بين الحضارة الصينية القائمة على كوسمولوجيا السيرورة والمحايثة بدلاً من النزعة الطبيعية الثابتة ومنطق التعالي والمفارقة، وعلى اجتماعيات النظام والتكيف بدلاً من الفردية والثورة. ومن هذا المنظور، تكون الحضارةُ الصينية مؤهلةً أكثر من الغرب لاستيعاب تحديات ما بعد الحداثة التي زعزعت مرتكزات الثورة التقنية والصناعية الحديثة، بما يفسر أن موجة التطور العلمي والتكنولوجي في العصر الحاضر ستكون في صالح الريادة الصينية.

ليست الوجوه الفكرية الروسية والصينية هي التي تكرر وحدَها هذه الآراء، بل لا نفتأ نقرأ في هذه الأيام لكُتاب كبار في الغرب عن «نهاية التفوق الغربي» و«صعود الثقافات الآسيوية»، ومن هؤلاء الفيلسوف الفرنسي «ميشال أونفراي» الذي نشر عام 2017 كتاباً مثيراً بعنوان «الانحطاط»، ذهب فيه إلى أننا نعيش الأيامَ الأخيرةَ للحضارة اليهودية المسيحية التي تلفظ أنفاسَها بعد ألفي سنة من الريادة.

منذ كتاب المفكر الألماني أوسوالد شبنجلر «انحدار الغرب»، الصادر عام 1918، لم ننفك نقرأ لكُتاب غربيين كبار نفسَ الصيحة التأبينية للحضارة الغربية، التي حذرنا الأديب الشهير بول فاليري بأنها قابلة للفناء والاضمحلال. ولا شك في أن هذه النغمة تصادف هوى في نفوس الكثيرين منا، خصوصاً عند الحديث عن حيوية وقوة اندفاع «الحضارة الإسلامية»، أو عند الحديث عن تحالف الحضارات الشرقية التي تنتمي إليها الثقافة الإسلامية.

إن هذا المسلك يتعارض بداهة مع التوجهات الحداثية والتنويرية لجيل الإصلاح والنهضة في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من حيث محاولاته الصريحة مواجهة «الهيمنة الغربية» بأفكار وقيم الحداثة الغربية نفسها. فمهما كان القول في النماذج الآسيوية والروسية الأرثوذوكسية، فإن ميزة الحداثة الغربية تكمن في نزوعها التاريخي المفتوح على زمنية المستقبل وفي منظورها الإنساني الكوني، مما حدا بالفيلسوف الإيراني الراحل داريوش شايغان إلى إصدار كتاب بعنوان «النور يأتي من الغرب».

فإذا كان من المفهوم، بل من المطلوب الانفتاح الاستراتيجي على القوى الدولية الصاعدة ضمن قواعد التعددية الجيوسياسية للعالم الراهن، بما فيها المعايير الثقافية والقيمية، فإنه لا محيد من الاعتراف بأن الثقافة العالمية الحالية بروافدها المتعددة هي نتاج الحداثة الغربية في مسارات تشكلها وأزمات وإشكالات تحولها وتنقلها عبر الفضاءات الثقافية الأشد تنوعاً واختلافاً.

*أكاديمي موريتاني