هذه هي المرة الثالثة في أقل من أربعة أشهر التي أتناول فيها السياسة الأميركية تجاه الصين، فقد كتبتُ في27 ديسمبر الماضي بعنوان «كيف تدير أميركا علاقتها بالصين؟»، وكانت المقالة الأخيرة بعنوان «التحالف الغربي والعلاقة مع الصين». ولا يرجع هذا الاهتمام فحسب إلى أهمية الدولتين على قمة النظام الدولي، ومن ثم أهمية العلاقة بينهما للاستقرار والأمن فيه، وإنما إلى ما يبدو من أن السياسة الأميركية غير حريصة على تجنب التصعيد رغم ما تفضي إليه سياسات التصعيد من توترات دبلوماسية وعسكرية لا شك أن العالم في غنىً عنها على ضوء ما يجري في أوكرانيا منذ أكثر من عام. ومن حق كل دولة بطبيعة الحال أن تُدير علاقتَها بأي دولة كما تشاء، لكن المشكلة تتمثل في أن سياسة التصعيد هذه لا تبدو في الظروف الراهنة بالذات سياسةً رشيدةً من وجهة نظر المصلحة الأميركية، لأن هذه المصلحة تقتضي في ظل احتدام الصراع بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا إبعاد الصين عن روسيا قدر المستطاع، أو على الأقل عدم إعطائها ذريعة لتوثيق التعاون معها، خاصة أن الصين تنتهج رسمياً سياسةً محايدةً تجاه الحرب في أوكرانيا، وهي لا تؤيد العمليةَ العسكريةَ الروسية هناك ولا تدينها، وهي تتفهم في الوقت نفسه الهواجسَ الأمنيةَ لروسيا وترفض المشاركةَ في سياسة العقوبات الغربية ضدها، كما تحاول الاضطلاع بدور الوسيط عبر مبادرتها لتسوية الحرب. 

وفي ظروف مثل هذه يمكن للأطراف الغربية أن تحاول بذكاء استغلالَ التباينات -ولو كانت هامشية- بين السياستين الروسية والصينية تجاه أوكرانيا، لتوسيعها ومحاولة الاستفادة منها، وهو ما تسعى له الأطراف الأوربية بالفعل. لكن السياسة الأميركية على النقيض من ذلك، إذ تبدو وكأنها حريصة على توسيع الفجوة مع الصين وليس بين الصين وروسيا، وهو ما يمثل عاملاً مساعداً على مزيد من توثيق علاقات التعاون بين موسكو وبكين.
هكذا فعلت السياسة الأميركية بزيارة رئيسة مجلس النواب السابقة لتايوان في أغسطس الماضي، ورغم ما بدا من محاولة للإصلاح بلقاء الرئيسين الأميركي والصيني على هامش قمة العشرين في بالي بإندونيسيا، في نوفمبر الماضي، فإنه سرعان ما خصصت الميزانيةُ العسكريةُ الأميركيةُ لعام 2023عشرة مليارات دولار لتحديث القدرات الدفاعية التايوانية، مما أعاد الغضب الصيني على نحو أشد. ثم تكرر الاستفزاز نفسه، الأربعاء الماضي، باستقبال الرئيس الحالي لمجلس النواب لرئيسة تايوان، وهو ما أجج الغضب الصيني بطبيعة الحال.
وتتذرع المصادر الرسمية الأميركية بأن زيارةَ رئيسة تايوان ليست رسمية، لكن رئيس مجلس النواب يشغل منصباً رسمياً رفيعاً، وهو الثاني في خلافة الرئيس بعد نائبه، والأهم من هذا إدراك الصين لهذا الفعل الذي تعتبره انتهاكاً لمبدأ «الصين واحدة» المعترف به من السياسة الأميركية، وقد ردت كما هو متوقع بمناورات عسكرية على مقربة من تايوان. 

صحيح أن أحداً لا يمكنه منع الولايات المتحدة من دعم خياراتها الاستراتيجية، لكن مسؤوليتَها الدوليةَ، كقوة عظمى مسؤولة عن حفظ السلم والأمن الدوليين، تلزمها بالحرصَ على تهدئة التوتر عبر المناقشة الجادة لسبل التوحيد السلمي للصين، بما لا يفتئت على حقوق أي طرف. غير أن البعض يرى أن للمجمّع الصناعي العسكري الأميركي رأياً آخرَ.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة