في سياق الجدل الفكري الواسع في أيامنا حول أزمة الديمقراطية في المجتمعات المعاصرة، كتب الفيلسوف الصيني «زهاو تنجيانو» مبشراً بما دعاه الديمقراطية الذكية «smart democracy» كحل لمعضلات النظام الليبرالي الانتخابي التعددي. وفي مقال تنجيانو المنشور في «مجلة العلوم الاجتماعية الصينية» تشخيص دقيق لإشكالات ومصاعب التكيف الديمقراطي مع أوضاع العالم الراهن المتولدة عن حركية العولمة الاقتصادية والمالية وانفجار الثورة الرقمية والاتصالية.

في هذا السياق يوضح تنجيانو أن الديمقراطية تهدف في أصلها إلى ضمان الاستقرار السياسي بحل إشكالية شرعية السلطة، إلا أنها لا تمنع التشظي الثقافي والتفكك السياسي. إنها ليست في ذاتها قيمةً معياريةً جوهريةً، وإن ارتبطت بقيم مركزية مثل العدالة والمساواة والحرية، فهي مجرد تقنية لضبط الخيارات العمومية عن طريق آلية الاقتراع التنافسي التي لا علاقة لها مباشرة بمعايير الحقيقة والخير والعدالة. ولذا فإن الانتخاب في حد ذاته ليس سوى مسلك انتقائي يعتمد على موازين الكثرة العددية، التي تختلف بالضرورة عن معيار الحقيقة الموضوعية الكونية.

المأزق الراهن يتمثل بالنسبة للفيلسوف الصيني في أن المجتمعات الليبرالية قد انتقلت من مفهوم «الاستخدام العمومي للعقل» الذي كان يتحدث عنه كانط إلى نظام جديد أطلق عليه «هيمنة الإعلان» publicracies. ما تعنيه هذه العبارة هو أن الوسائط التواصلية والمواقع الاجتماعية والمنصات الإعلامية الكبرى قد أصبحت هي الضابط للحركية الاجتماعية وفق معيار «سوء الاستخدام العمومي للعقل» الذي هو النقيض المباشر لمطلب الصياغة الشفافة والكونية للخطاب العمومي المشترك في مجتمعات حرة وتعددية.

لقد كان نموذج المجال الديمقراطي تاريخياً هو «الساحة الحوارية» اليونانية agora، قبل أن يولِّد الفكرُ الليبرالي الحديثُ نظامَ المؤسسات التشاركية والتداولية التي هي أرضية الديمقراطية التعددية. إلا أن ما يحدث اليوم هو انهيار هذه المؤسسات وانحسار المجال العمومي بمعانيه وتشكلاته المختلفة. وهكذا استطاعت المنظومات المالية المعولمة والتقنيات الرقمية الجديدة تقويضَ الإمكانات العملية للحوار العمومي، مشكلةً ما أطلق عليه الكاتب «الهيمنة الإعلانية التسلطية».

ومن هنا ندرك خلفيات ما دُعي بأزمة الديمقراطيات التمثيلية، حيث لم يعد الاقتراع التنافسي كافياً لضبط الاستقرار الداخلي وتأمين الشرعية السياسية. إن آلية الانتخاب لا تكون فاعلةً إلا بشرطين: الإجماع القاعدي حول الثوابت المرجعية الكبرى للمجتمع المدني وقبول الفوائد المشتركة للعملية التنافسية. ولذا فإن النظام الديمقراطي لا يكون ناجعاً في عدة حالات، من بينها: غياب دولة القانون، والتنازع الشامل الذي يقسم المجتمع إلى فئات متمايزة لا شيء يجمع بينها، وامتداد الصراع حول القيم المرجعية وصدام الثقافات القائمة. وبالنظر إلى الفرق النوعي بين الحالة التوافقية الديمقراطية المؤسسة على المحددات الإجرائية المحضة والحالة التوافقية الموضوعية المستندة إلى حقائق برهانية صلبة، فإنه من الضروري مراجعة أساليب وأدوات الديمقراطية الليبرالية.

وفي هذا السياق، يقترح الفيلسوف الصيني مجموعةً من الحلول لأزمة الديمقراطية المعاصرة، تتركز في حلين أساسيين هما: مراجعة نظام التصويت في الانتخابات في اتجاه منح الناخب صوتاً إضافياً يخوله التعبير عن موقفه بالإيجاب والسلب معاً في القضايا المطروحة، بما يمكِّن من احتساب التعددية الفكرية والسياسية في أوجهها الرحبة، وإضافة نمط جديد من الاقتراع خاص بالمجموعات المتخصصة والعالمة في الدوائر الطبيعية والإنسانية بما يكفل، بالإضافة إلى اعتماد رأي القاعدة الاجتماعية العريضة، الاستنادَ إلى رأي الخبراء والمختصين أي حراس الحقيقة والمعرفة. ذلك هو مضمون «الديمقراطية الذكية» التي يقترحها الفيلسوف الصيني تنجيانو. ولا شك في أن أطروحته تشكل إضافةً نوعيةً إلى الكتابات الرائجة حالياً حول أزمة الديمقراطية الحزبية التمثيلية وانعكاساتها على معايير الشرعية السياسية وعدالة النظام الاجتماعي. وقد ذهب كثير من المفكرين السياسيين الغربيين إلى ضرورة مراجعة آليات وأساليب الديمقراطية التعددية من حيث أنظمة التمثيل وزمنية الانتخاب وطرق التنظيم والتعبير، بعد أن غدا من البديهي أن ميكانيزمات الديمقراطية التقليدية لم تعد فعالةً ولا ناجعةً. وبالتفكير في سياقنا العربي، قد يكون من المناسب توطيد تجربة المجالس الاستشارية المختصة التي تصبح في بعض الحالات قوةَ توازن ضرورية مع الهيئات المنتخبة في وضعيات الانتقال السياسي المتأزمة، كما حدث في عديد من البلدان العربية.

وللسودان في تجربته الليبرالية السابقة ريادةٌ في اعتماد دوائر تمثيلية خاصة بالخريجين ضمنت رفع مستوى المجلس النيابي الذي سيطرت عليه الأحزاب الطائفية والمجموعات الأهلية. خيار الديمقراطية الذكية قد يكون إذَن هو الحل المستقبلي لأزمة الليبرالية السياسية الراهنة في سياقنا العربي وفي المجال العالمي الأوسع.

*أكاديمي موريتاني