لم تنجح سياسة الاحتواء الأميركية أواسط تسعينيات القرن الماضي، ولا سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق، ومع مطلع القرن الحالي، حيث قامت الولايات المتحدة باحتلال العراق، واستيقظ من التاريخ صراع مذهبي وقومي مريع ليس من ضرورات الواقع. وخلال السنوات الماضية ألمحت الولايات المتحدة إلى تغيير شكلي وموضوعي في سياسة وجودها في الشرق الأوسط، وإلى أنها منشغلة بالصراع المرتقب مع الصين، وإلى أن الدفاع عن الدول العربية لن يكون مجانياً، وكانت سياسة التخلي التدريجي قد حلّت محل سياسات الاحتواء الذي تنوعت أشكاله بين احتواء نشط واحتواء بارد لقضايا المنطقة. لقد فشلت سياسة الاحتواء التي أعلنها مارتن أنديك منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكان هدفها حسب ظني إضعاف القوى الإقليمية المتصارعة جميعاً.

ورغم أن سياسة الاحتواء التي انتُهجت سابقاً زمن الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي أضعفته، فإن سقوطه لم يكن بسببها وإنما كان بسبب التحلل الداخلي، وقد ترك هذا السقوط جراحاً عميقة في نفوس مَن كانوا يسابقون الولايات المتحدة في حرب النجوم، ليجدوا أنفسَهم أمام وقائع جديدة جعلتهم يدركون أن الفارق التنموي بات ضخماً بين واقعهم وبين الغرب الذي جعل التفوق التكنولوجي والرخاء الاقتصادي يعم كل مفاصل الحياة فيه.

وظن الغرب لفترة أن الشعب الروسي بات سعيداً لمجرد أنه أصبح يأكل الهمبرغر ويشرب البيبسي ويستورد الهواتف الذكية.. بينما كانت روسيا تستعد عسكرياً لاستعادة مكانتها على صعيد دولي، وقد انطلق بركانها حين أخذت القرم وعينُها على أوكرانيا وكل الجدار الشرقي الذي توجه إلى الغرب وأتاح للناتو أن يحقق توسعاً.  روسيا صممت على هدم سياسة القطب الواحد في النظام الدولي الذي اعتبره فوكوياما انتصاراً رأسمالياً يجسد نهاية التاريخ، وقد ضاقت رؤيته عن رؤية أستاذه هنتغتون الذي بشّر بصراع الحضارات، وعن رؤية أستاذهما برنارد لويس الذي أسس النظرية.

ومع إخفاق رؤية أنديك وفريقه البحثي، والتخلي التدريجي عن سياسة الاحتواء، وتصاعد الصراعات مجدداً في الشرق الأوسط، وظهور تحمية لصراعات مرتقبة في المحيط الهادئ، واندلاع حرب شرسة خلف الجدار الشرقي مع روسيا باتت مقلقةً ومهدِّدةً لأوروبا.. ومع تأرجح سياسة التخلي الأميركي منذ عهد أوباما إلى العهد الراهن، وتغيير ساحات الصراع من الأبيض المتوسط إلى المحيط الهادئ، وحدوث حالة وهن في التحالفات التقليدية مع العرب.. بات أمام الولايات المتحدة أن تستعيد سياسةَ الاحتواء مستفيدةً من جولتها الأولى، لاسيما بعد أن أظهر العربُ قدرتَهم على النجاح في إيجاد البدائل سريعاً وتحقيق احتواء عربي للصراعات الداخلية، عبر إطفاء الحرائق، وترميم الجسور، والبحث عن صداقات وتحالفات اقتصادية عالمية متعددة الأسواق والمسارات، وتمتين البنى الداخلية، مع الحفاظ على جوهر العلاقات مع أميركا التي لا يريد العربُ أن تكون خصماً أوعدواً لهم.. وفي ظل المساعي الراهنة لتسوية التباينات العربية وتصفير المشكلات الإقليمية، بما يستجيب لرغبات الدول العربية الباحثة عن استقرار آمن ومستدام في المنطقة، والتي لن تكون في هذه الحالة بحاجة إلى سياسات احتواء من الآخرين.

*وزير الثقافة السوري السابق