الإعلام هو ساحر العصر الحديث الذي يبهر الحضور بعروضه، ويدهشهم بأخباره الحصرية (جملة أفرطتْ في استخدامها كثير من المؤسسات الإعلامية)، ويتركَّز الإعلام بين جماهير مستقبِلة، وفرد أو مجموعة صغيرة مسؤولة عن نقل المادة الإعلامية، ومهمتها الوظيفية الطبيعية هي نقل الخبر وتحليله، ولكنْ ماذا عن الإعلام الذي يسعى إلى صناعة الخبر؟!
ومن الخطورة بمكان أن يتحوَّل الإعلام من نقل الخبر إلى صناعة الخبر، فهو هنا يمارس دوراً سلبيّاً في تشكيل وعي زائف للمتلقين، ويُطلَق على تأثير الإعلام في الجماهير بطريقة مبرمجة «هندسة الجمهور». وقديماً اقتصرت الوسائل الإعلامية على الصحف والإذاعة والتلفزيون، وكان من الممكن إدراك التلاعب، نظراً إلى وجود قوانين مهنيَّة حاكمة يُلجَأ إليها لضبط الأداء الإعلامي، ولكنْ في عصرنا الحديث، وفي ظل وجود شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت تمثل الإعلام البديل، بدأ الأمر يخرج عن السيطرة، ولا سيَّما مع ظهور تقنيات التزييف العميق التي تتيح التلاعب بالصورة والصوت، وصناعة فيديوهات غير حقيقية، ولكنها عندما تُبث في الشاشات تبدو حقيقية تماماً.
وصارت شبكات التواصل الاجتماعي ساحة مفتوحة لا ضابط لها، وتحوَّل كل مَن لديهم حسابات فيها إعلاميّين، والقليل منهم مَن يتحلّى بالمصداقية والمهنية، والكثير بل الأغلب يصنع أخباراً تخضع لأيدولوجياته ويقينياته الخاصة، فهل نتصور مدى هندسة العقول التي قد يُحدِثها إعلام شبكات التواصل الاجتماعي بعد أن أصبحت تخترق كل العقول بلا هوادة، وبلا حدود أو رقيب؟
وبرغم أن هذه الشبكات لا يمكن إغفال الجانب الإيجابي فيها، نظراً إلى أنها تؤدي دوراً اجتماعيّاً وتثقيفيّاً وإنسانيّاً إيجابيّاً أحياناً، فإن لها جانباً سلبيّاً خطِراً يحتاج إلى التوقف عنده، ومراجعة آليات التعامل معه، والتغلب على آثاره، بعد أن أصبحت أرضاً خصبة لتلفيق الأخبار، وإطلاق الشائعات.
وبحسب أحدث الإحصائيات، يقترب عدد مستخدمي «الإنترنت» في العالم من ثلثَي عدد السكان، وبلغ عدد المستخدمين النشيطين لموقع «فيسبوك» 1.8 مليار مستخدم يوميّاً، ما يؤكد مدى سيطرة شبكات التواصل الاجتماعي على المجتمعات، وقدرتها على نقل الخبر بصورة تراكمية، وبسرعة شديدة تصعب بل تستحيل السيطرة عليها. والأمر الأكثر خطورة هو إعادة تدوير الخبر، ذلك أن ناقله لا ينقله كما وجده في الشبكة، بل يحوّره ويزيّفه، ويغير بعض أحداثه، ويضيف إليها أحداثاً زائفة أخرى لكي يتواءَم مع توجهاته.
وتكمُن خطورة شبكات التواصل الاجتماعي في أنها أصبحت الآن تمثل المصدر الرئيسي للأخبار عند الأغلب الأعم من الناس، بل منحت الأفراد دوراً كبيراً في صناعة الأخبار، وصار الهاتف المحمول عيناً تنقل الخبر لحظة حدوثه من أي مكان في العالم إلى أي مكان آخر فيه.
والواقع الجديد يقول إن شبكات التواصل الاجتماعي أصبحت تقود الإعلام، بل أصبحت تقود عقولنا، وتُسهّل كثيراً إعادة هندسة عقول المجتمع، وتزييف الوعي، ما يؤثر تأثيراً مباشراً في الأمن المجتمعي واستقرار المجتمع، وقد يؤدي إلى تفكيك اللُّحمة الوطنية والإنسانية لأي مجتمع ما لم يكن لديه من الوعي ما يكفي للتعامل مع هذا التزييف وتلك الهندسة للعقول، وذلك بتنشئة أجيال لديها قدرة على النقد والتحليل والتفكير، وذات شخصية متفاعلة، لا ذات عقول مستقبِلة فقط، فهذه هي الضمانة الوحيدة -من وجهة نظري- لمقاومة أعاصير التزييف التي تنطلق كل يوم، بل كل ساعة عبر شبكات التواصل الاجتماعي.