ما تزال التقييمات الأميركية تتحرك في اتجاهات عدة، وتعمل الجمع بين خيارات متعددة، وهو ما يؤكد أن الإدارة الأميركية ترتب لاستمرار تواجدها بالقرب من التطورات السودانية مع رهانات استمرار المواجهات، وعدم انتهائها سريعا بل إنها ستستمر لبعض الوقت وفقا لمقاربة أجهزة الاستخبارات الأميركية. ومن الواضح أن توجهات الإدارة الأميركية تمضي في إطار واحد بدخول السودان في مواجهات عسكرية مفتوحة مما يعني استمرار العمل العسكري، وعدم الدخول في مفاوضات لوقف إطلاق النار مع التركيز بعض الهدن الإنسانية بصورة دورية، وهو ما قد يكون مقدمة لما هو آت من سيناريوهات مفتوحة حتي الوقت الراهن، وفي ظل مخاوف من امتداد العمليات إلى مناطق الشرق ودارفور، وغيرها مما قد يؤدي بالفعل إلى حرب أهلية اختبرها السودانيون من قبل لسنوات طويلة برغم التأكيد بأن هذا الأمر مستبعد على الأقل في الوقت الراهن، وإنْ كانت كل الخيارات متوقعة بما في ذلك الذهاب إلى الأمم المتحدة، وتطبيق الباب السابع السودان كدولة، ونظام بصرف النظر عما يجري من تطورات، حيث لوحظ أن هناك ترقباً غربياً عموماً وأميركيا وروسيا وصينيا على وجه الخصوص لمتابعة ورصد ما يجري للتعامل مع أي متغيرات محتملة وواردة، وهو ما يجب وضعه في الاعتبار، خاصة وأن الاستعدادات الدولية لمواجهة ما يجري ستكون محل دراسة، وهو ما يتم في دوائر الكونجرس في الوقت الراهن لاعتبارات متعلقة بمتطلبات الأمن القومي الأميركي داخل السودان وطول مناطق التماس الاستراتيجي المؤدية إلى منطقة القرن الأفريقي، ولعل هذا الأمر يفسر وبقوة بدء الولايات المتحدة تدشين جسور جوية ممتدة من قواعد عسكرية أميركية من داخل الولايات المتحدة مثل «فورت بينينج»، و«فورت كامبل» في اتجاهات محددة إلى القرن الأفريقي، وتحديداً في القاعدة الرئيسية للولايات المتحدة (كامب ليمونييه).
ويبدو أن الأمر يتجاوز عمليات الإجلاء، والنقل التي تتم بصورة اعتيادية في مثل هذه الأمور، وتتم بالأساس من خلال العمليات الخاصة مدعومة بعتاد استراتيجي متعارف عليه، كما قامت دول أوروبية بنفس الأمر مما يشير إلى أن هناك مخططاً أميركياً استباقياً لما يمكن أن يجري في الفترة المقبلة من احتمالات الاتجاه إلى عمل عسكري كبير، أو التدخل في توقيت محدد، وكي لا يستمر التجاذب داخل الكونجرس بشأن الآليات الواجب العمل بمقتضاها، واتهام الرئيس جو بايدن بالتقصير في تقييم مسار الأحداث، وأن التقييمات الإستراتيجية أخطأت في التعامل مع الحدث الطارئ مما سيؤثر على مصالح الولايات المتحدة الكبرى في التطورات الأفريقية عامة، وليس القرن الأفريقي، أو السودان فقط، وهو ما يؤكد أن هناك ترتيبات تجري في الدوائر الأميركية مرتبط بالإغلاق العاجل للسفارة الأميركية في الخرطوم، ما يشير إلى تصور تكتيكي مرتبط بما هو قادم أميركياً، وسيدفع للتعامل الأميركي اللاحق في أية تطورات قادمة، وتتعلق أيضا بالسلوك المقابل لروسيا، وحضورها المتوقع في المشهد العسكري خاصة وأن لروسيا دوراً بارزاً في ما كان سيجري، ومسعاها لتدشين قاعدة عسكرية في الأراضي السودانية، ومن ثم فإن التحرك الأميركي سيكون مرتبطا بحجم الوجود الأميركي الكبير، وأيضاً بتوقعات القيادة الأفريقية للولايات المتحدة خلال الفترة المقبلة، وفي ظل توقع مطروح أيضا بتدهور الأوضاع العسكرية بصورة شاملة، وانفتاح المشهد إلى سيناريوهات اللا حسم.
الولايات المتحدة تتأهب للتعامل مع كل الخيارات خاصة وأن بعض الدول الغربية بدأت بالفعل في غلق سفاراتها، ولا شك أن إعادة ترتيب المهام والأولويات الأميركية ستتم وفق ما سيجري من تطورات حقيقية على الأرض بصرف النظر عن التعامل الأميركي مع طرفي المعادلة، أو الاتجاه للانفتاح على الجانبين تخوفا من تطورات طارئة قد تطرأ في الفترة المقبلة.
المؤكد أن الإدارة الأميركية تتخوف من الدخول في مسرح عمليات جديد أياً كان إطاره، أو شكله في ظل ما يجري في مسارات الحرب الروسية الأوكرانية، والتوترات الحالية في جنوب شرق آسيا، واحتمالات المواجهة في تايوان نتيجة للتدابير الصينية التي تمت مؤخراً، واستمرار إعادة تموضع القوات الأميركية في أراضي «الناتو» بعد التحاق فنلندا مؤخراً، وقرب دخول السويد، ما يشير إلى حالة عامة تتعلق بالسلوك الأميركي الذي يتخوف من تحول ما يجري خارج النطاقات إلى معركة داخلية في الكونجرس، واتهام الرئيس الأميركي بعدم القدرة على حماية المصالح الأميركية خاصة وأن الإدارة الأميركية تستعد خلال الأشهر المقبلة للانتخابات الاستهلالية للرئاسة، الأمر الذي قد يعقد المشهد داخليا، وسيؤثر على السياسة الأميركية ليس في السودان بل وفي منطقة القرن الأفريقي بأكملها.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية