لا شك أن دول الخليج اليوم هي من دول العالم الأكثر نضوجاً من ناحية البنى التحتية المتقدمة، حيث ترى التقدم المادي طاغياً على كل مناحي الحياة، وأصبحت  جودة الحياة فيها بأنها أقرب إلى الأحلام، بل هي أرض الأحلام! وتحت كل هذه الظواهر الحضارية اللامعة يكمن غبار الخصوصية المقدسة التي ينادي بها الخليجيون.
 وضمن هذا الإطار يأتي السياق الثقافي الخليجي الذي تسيطر عليه روح الانتماء للقبيلة والمجموعات الإثنية، وحتى بعد أن كشفت اختبارات الجينات عن كذبة الصفاء العرقي، ولذلك أدركت دول الخليج أن تحرير العقل الخليجي من التبعية المعرفية للنهج الغربي كتقدم حضاري حتمي، والتخلص من عصبية المفاهيم العرقية والتحرر من الوصاية التاريخية هي أكبر التحديات لهدم ما يعرقل العبور من القبيلة للدولة.
وتعد مهمة مكافحة التعصب القبلي أولوية قصوى لدول الخليج لتعزيز الحياة المدنية والسلطة المركزية، لكون الانتماء القبلي والانتماء للدولة ضدين في مفهوم بناء الدولة المستقبلية، وضرورة حلول المواطنة كبديل حتمي للتحيّز في الانتماء القبلي، وأهمية نشر مفهوم الوعي القبلي الوطني الذي يجمع ولا يفرّق ويعد جدولاً نهرياً فرعياً يصب في نهر الوحدة الوطنية الأكبر بين أفراد المجتمع.
 التعصب القبلي معول هدم،  يقف ضده تيار مضاد من فئات مختلفة ترى أن الاندماج الوطني لا يتم إلّا من خلال تبّني الدولة كقبيلة أم، وعدم ربط المواطنة بالفائدة والقيمة المادية المضافة للفرد، أو جعل المواطنة محصورة في الهيئة الخارجية ومستوى المعيشة الناتج عن كون الفرد جزءاً من نظام سياسي أكبر.
فعقلية التعصب والتحيز الأعمى تجدها بين الحضر والبدو وغيرهم من المكون الاجتماعي، وصعود تيارات المواطنة العابرة للحدود، وهو تيار شبابي تقني من جيل الفيسبوك وما بعد الهجرة الاجتماعية من المواقع الجغرافية المادية إلى المواقع الافتراضية الذكية، حيث أصبحت تلك التيارات المحصّنة بالذكاء الاصطناعي نخباً خارج القوالب القديمة، وهي تفرض التعددية الثقافية الحتمية في عوالم لا تحدها حدود، وكما ذابت القبيلة في بعض المجتمعات العربية، فهي في طريقها لذلك في دول الخليج العربي في الثلاثين سنةً القادمة، من خلال الإعلام غير التقليدي والتقنيات الحديثة للتواصل الاجتماعي ونضوج مفهوم المدن التخصصية وضواحيها الذكية.
مقدمات ذوبان القبيلة في الدولة في دول عربية مثل مصر والمغرب وسوريا، على سبيل المثال، تختلف عن باقي الدول العربية، وذلك بحكم الاحتكاك مع العالم الخارجي والتنوع في خلفية المكون الاجتماعي، والبعد التاريخي لمفهوم الدولة والعقد الاجتماعي لديهم وهجر البداوة منذ زمن بعيد، وحلّ بدل القبيلة المنطقة الجغرافية والوضع الاجتماعي وخاصةً المادي والمهني والعمراني والمعرفي وموروث الأقاليم داخل تلك الدول، وعوضاً عن رفع أعلام القبائل، بدلاً من أعلام الدول في عملية مدنية مثل الانتخابات، في تحضّر مدني مشروط ومحاصر بعوامل كامنة في الوجدان الجماعي لبعض المجتمعات العربية، فلا بدّ من تبّني إرادة جامعة تجعل الانتماء للدولة فوق كل انتماء، وتوجه واضح وراسخ لجعل الدولة هي القبيلة التي ينتمي إليها الجميع دون استثناء، وهو عمل سيتطلب وضع الأسس لذلك من خلال علم وفن إدارة التغيير الجماعي للمجتمعات.

*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.