الفنّ لغة ذو دلالات مختلفة، ومنها دلالة الضَّرْب من الشيء، والنّوع منه. ورجل مِفَنّ أي يأتي بالعجائب. وهو اصطلاحاً كل إنتاج أبدعه الإنسان. وابتُدِعَ اسم «الفنون الجميلة» ليُطْلَق على أهمّ الفنون التي نعرفها اليوم: التصوير، والنّحت، والموسيقى، والشعر، وفنّ البناء والزخرف، والرّقص، والرّسم. 
والفنّ بجملته لم يكن غريباً عن التّفكير الفلسفي، بل وعلى غيره من أنواع التفكير الممكنة، فقد ظل الفن في قلب التجربة الإنسانية سواء اتّخذت طابعاً أسطورياً أو دينياً أو فلسفياً، بل إن الفنّ يسكن العلم ذاته، كما أبرز «باشلار»، وكأن الفنّ يُلْحم الإنسان بهذا الكون الفسيح العريض، بل لكأنّه يُشكّل معه ضرباً من وحدة جمالية لا تتبعّضُ. قال فيثاغوراس إن العالم عدد ونغم، ليشير إلى هذا المعنى، وعبّر كثير من الفلاسفة عن رؤاهم الفلسفية من طريق القصيدة، كما صنع بارمنيد وأمبادوقليس، فأصبح الشعر لغة الفلسفة. وأصبح الجمال عند أفلاطون موضوعا للفلسفة إلى جانب الحق والخير.
لم يكن فلاسفة الإسلام بمنأى عن هذا المنزع الفلسفي، فقد كتب الكندي في الموسيقى رسائل، وكتاب «الموسيقى الكبير» للفارابي شاهد على مكانة الموسيقى في بلاد الإسلام سواء على المستوى النظري أو العملي، وبلغ ابن باجة شأوا بعيداً في هذا المجال حتى إن أشعاره وتلاحينه كانت شائعة تُتَغَنَّى في الأندلس ويُطْرب لها، والغريب أن ابن باجة اتبع نصيحة أفلاطون فكان أن بدأ مساره العلمي بالموسيقى وأنهاه بالفلسفة.
حقا، لقد ظلّت بعض الفنون الجمالية في بعض بلاد الإسلام ذات وضع قلق نتيجة أمرين اثنين، فهم ظاهري لبعض النصوص الحديثية التي لم تُؤْخذ في مقاصدها وغاياتها. الأمر الثاني، هو اختلاط الموسيقى عادة بمجالس يرْبَأُ عنها الصّالحون والحكماء، فضلاً عن أن بعض أنواع الموسيقى بنعومتها المفرطة وأشعارها المُتَحلّلة قد تُشجّعُ على غير طريق الفضيلة، فتُهْجر لهذا السبب. وقد أشار كثير من الفقهاء إلى هذا المعنى، وقد وجدت الفارابي قد نصّ عليه في كتاب «الموسيقى الكبير».
إن الموسيقى علم رياضي، وقد أفرد لها الفارابي في كتابه «إحصاء العلوم» فقرات عرّف بها تعريفاً علمياً، إذ كانت مادّة تعليمية تدرس في المدينة الإسلامية كعلم رياضي، أما توظيفاتها فشيء آخر، فقد توظّف في رُقي المشاعر وتعلّم اللغة وتنمية الخيال وحماس الجنود، وكانت البيمارستانات تستخدمها في علاج المرضى. وقد تُوظّف في غير ذلك فيلحقها الإسفافُ بالعَرَض. ولم يَنِ الفقيه الفيلسوف ابن رشد في كتابه «جوامع سياسة أفلاطون» يشيد بالموسيقى في تربية الأطفال، ويُشجِّعُ على اختيار الألحان الحسنة والأشعار الفاضلة، ويعتبر ذلك مدعاة لغرس الفضائل في نفوس النّاشئة، وتقويم طبائعهم، وجعل فطرهم أكثر استعدادا لتقبّل الحكمة، بل اعتبر ابن رشد أن فساد الموسيقى مؤذن بفساد المدينة. فليس العيبُ إذن في الموسيقى كعلم من العلوم، بل العيب في سوء استخدامها. وإمعانا في الانتصار للفنّ، يدعو ابن رشد الحفيد إلى تزيين المدينة بالصّور والتّماثيل، لتعويد النّاشئة على رؤية أهل الفَضْلِ من أهل مدينتهم، وتَذكُّرِهم، فيقتدون بهم.
إن للفنون صلة وثيقة بالفضائل والقيم، وإن تربية النّاشئة على حبّ الفنون وممارستها يسهم في تفتح ملكاتهم العقلية والعاطفية، ويجعلهم على أتمّ الاستعداد لتحقيق كمالاتهم النّظرية والعملية التي يقتضيها وجودهم الاجتماعي، بل ويحميهم من تسلط المشاعر المدمّرة ويطهرّهم منها.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الانسانية.