لم تُعزل سُهُول العِراق عن جبالهِ، حتى في عزّ القطيعة (1991 -2003)، كان الوصال جارياً، ومنها الشَّراكة في الجوع، وسد الرَّمق، عبر الحصة التّموينية، حيث «النِّفط مقابل الغذاء»، فوفق هذا القرار الأمميّ (الأميركي) لم يرجُ العِراقي غير البقاء حيَّاً، أما التّعليم والصَّحة والتَّنمية، فغدت مكملات، ناهيك الحِلم بالموز والتّفاح. كان جوعاً حقيقياً، والجوعَ «كافر». 
وجدناه عنواناً مرعباً «النّفط مقابل الغذاء»، استغله ساسة ومثقفون، العرب والغرب، وحكاية «كبونات» النفط مشهورة، وصلت إلى رؤوس في الأمم المتحدة، مع أنّ العراقيين كافة، عدا سِمان النّحور، كانوا يتعزون بما نُسب لقائلين، بينهم المتصوف السَّعيد بجوعه إبراهيم بن أدهم(ت: 161هج): «وَمَا هِيَ إِلَّا جَوْعَةٌ قَدْ سَدَدْتُهَا/ وَكُلُّ طَعَامٍ بَيْنَ جَنْبَيَّ وَاحِدُ»(الأصفهاني، محاضرات الأدباء). تخيل البلاد التي تغزل بريفها زُهير بن أبي سُلمى(قبل الإسلام): «فَتُغْلِلْ لَكُمْ ما لا تُغِلُّ لأهْلِهَا/ قُرىً بِالعِراقِ مِنْ قَفِيْزٍ وَدِرْهَمِ»(الزَّوزنيّ، شرح المعلقات السَّبع)، جعل الحصار مواطنها حائراً بسد جوعته؟! 
أقول لم ينقطع الوصل، فالسُّلطة لها جيوب كرديَّة، في أحرج الظّروف، دعتهم بالفرسان، وبالمقابل معارضتها مختلطة، مِن السّهل والجبل. كذلك عندما دخلت إيران، خلال حرب الحزبين(1994-1996)، دُعي الجيش العراقي، وكأن لم تكن مواجهات كاسحة، بينه وبين الحركة الكُرديَّة، فالسِّياسة ليست حرباً دائمةً، وقد تكون سلماً دائماً.
كان الحزبان، اللذان ينشدان دولة كردية معاً، دقا بينهما إسفيناً، ويومها جمعتهما «مؤسسة المدى»، تحت جناح محمد مهديّ الجواهريّ(ت: 1997). عندما تبنت(العام 2000) مهرجان «مئويته»، والجواهريّ الآخر جمع السَّهل بالجبل، فله مِن الذَّائبين، كالرَّئيس الأسبق جلال الطَّالبانيّ(ت: 2017)، وللشاعر العظيم أكثر مِن ملحمة بالجبال: «سَلم على الجبل الأشمِ وعنده/مِن أبجديات الضَّحايا معجمُ». ما كنا نحسب، ونحن نعبر نهر الزَّاب يومها، أنَّ الحدود ستفتح بين السليمانيَّة وأربيل، وكانت رسائل الفن والثَّقافة منقوشة بسفوح الجبال مِن قِبل فنانين وأدباء. 
عودة على بدئه، تُقيم مؤسسة المدى للثقافة والنَّشر معرضاً سنوياً بأربيل، وقبل شهرين خُتمت الدَّورة الرَّابعة عشرة، تُعدُّ أيام المعرض عِشرةً عراقيّةً، تُمَدُ خلالها أواصر المواطنة، ومع السِّنين ركت مقولة (الاستعمار) العراقي، فعندما يتعاظم الخطب تتسرب المفاهيم الجائرة، لكن على أرض الواقع اليوم أخذ الشَّباب، ينظرون إلى واقع الحال، مستبعدين الأحلام، فضالتهم الاطمئنان على معاشهم، وعِمارة مدنهم، فلا ينظرون إلى بغداد خصماً. كانت تلك «أناشيد» فرضتها ظروفها. 
كان المطاردون مِن قبل السُّلطة، ببغداد وبقية الحواضر، يلجأون إلى الجبال، وبعد(2003)، هب الأمل بانتهاء وظيفة الجبل ملجأً، لكنّ أمل العراقي أكثر يأساً مِن أمل ابن بُرد(قُتل: 168هج): «أَلا لا أَرى شَيئاً أَلَذَّ مِنَ الوَعدِ/ وَمِن أَمَلٍ فيهِ وَإِن كانَ لا يُجدي»(الدِّيوان). كان الأمل أن تكون وظيفة الجبل الاصطياف، وإذا بالوظيفة القديمة نفسها، صار ملجأ لطرائد الجماعات المسلحة ببغداد وحواضرها. كان الطّرائد يتجولون في أروقة المعرض، بينهم مَن خُطف آباؤهم وقتلوا، فلم يجدوا غير الجبل وجهةً.
لعب معرض المدى دوراً في تهدئة العواطف، والنَّظر إلى بغداد وبقية الحواضر كأجزاء مِن وطن واحد، انحسار محسوس للتعصب لحِساب العراق ككلٍّ، مثلما أخذ ينزاح التَّعصب المذهبيّ، فمن تجربة: ما دخل التَّعصب أرضاً إلا أفناها. أخذ الشّباب الكردستانيون يتحدثون بواقعيّة، لا بأحلام وخيالات، سمعتها مِن شباب واعٍ، مدركين أنَّ العمران واحد والخراب واحد، فخراب بغداد لا يمنحهم عمراناً. 
بغداد التي نام على جرف نهرها ليحميها مِن الغرق سعيد قزاز الكردي(أعدم: 1959)، أحد أفاضل وزراء الدَّاخلية العراقيين، وكتب لها «بغداد الجنة العامرة» محمّد رۆژبايانى المؤرخ الكرديّ(ت: 2001). إنها الصِّلات بين السُّهول والجبال، أقدم وأجدر مِن خصوم العِراق كافة.
*كاتب عراقي