سيظل القلق الدولي قائماً من عدم قدرة الولايات المتحدة علي التعامل مع سقف الدين العام لاعتبارات متعلقة بوضع الاقتصاد الدولي، وارتباطه هيكلياً بالاقتصاد الأميركي حيث تتنامي التخوفات الأوروبية المطروحة من عدم السداد العام في الفترة الراهنة برغم التفاؤل بارتفاع الأسهم الأميركية بعد أن أكد الرئيس جو بايدن ورئيس مجلس النواب «الجمهوري» كيفن مكارثي عزمهما التوصل لاتفاق قريباً لرفع سقف الدين وتجنب تعثر اقتصادي كارثي، وهو ما حذرت من تبعاته وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين من نفاد السيولة الأميركية بحلول الأول من يونيو.
وإن فشل الكونجرس في رفع أو تعليق سقف الديون، على اعتبار أن الوصول إلى سقف الديون، يعني أن الحكومة الفيدرالية غير قادرة على اقتراض المزيد من الأموال، فإن هذا قد يؤدي إلى تعثر شامل. وفي المقابل فقد تراجعت الأسهم الأوروبية مع استمرار قلق المستثمرين من نتائج مفاوضات رفع سقف الدين الأميركي، وما إن كانت ستؤدي إلى تجنب التخلف عن السداد، فضلاً عن مجموعة نتائج أرباح ضعيفة تصدرتها شركات إدارة أسواق المال.
وفي هذا السياق - وفي إطار مسعى منهم لجر الرئيس جو بايدن إلى مواجهة- كان الحزب «الجمهوري» قد أقر في مجلس النواب مشروع قانون يرفع سقف الدين الوطني بالتوازي مع خفض الإنفاق الفيدرالي، رغم ما يرتبه ذلك من مخاطر باحتمال تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها، وقد أُقر مشروع القانون «الحد والتوفير والنمو» في مجلس النواب بغالبية ضئيلة من 217 نائباً مقابل 215، ولكن سيطرة «الديمقراطيين» على مجلس الشيوخ جعلت من الصعب تحوله إلى قانون، وقد سعى الحزب «الجمهوري» لتمرير القانون في الكونجرس بهدف تعزيز موقفه في المفاوضات مع الرئيس بايدن الذي يرفض بشكل حازم الموافقة على أي خفض في الإنفاق مقابل رفع سقف الدين.
يشير الواقع الفعلي إلي أنه لا فرصة أمام مشروع القانون هذا ليتحول إلى قانون حيث يتعين على «الجمهوريين» أعضاء الكونجرس التحرك بشكل فوري، ومن دون شروط لتجنب التخلف عن السداد حيث تبلغ ديون الولايات المتحدة 32 تريليون دولار تقريباً، وتعتبر ديون الخزانة الأميركية أساس تقييم الأصول الآمنة في العالم، ومعدلات فائدتها هي الأساس لتسعير المنتجات والتعاملات المالية في جميع أنحاء العالم خاصة وأن الولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد في العالم، وأي تأثر أو تخلف عن سداد الديون سيؤثر بشكل كبير على الاقتصاد الأميركي أولاً، ومن ثم على الاقتصاد الدولي.
الواضح إذن أن هناك أسباباً جعلت تخلف الولايات المتحدة، وتكرار تحذيرات وزيرة مخاوفها من التعثر هو أنها تنفق أموالاً منذ عدة سنوات أكثر مما يدخل في خزانتها. والمشكلة في استمرار حالة التجاذب بين الطرفين «الجمهوري» و«الديمقراطي» بدليل توقف المحادثات بين الأعضاء «الجمهوريين» في مجلس النواب، وإدارة الرئيس جو بايدن حول رفع سقف الدين بصورة تكتيكية بالرغم من التأكيد على أنه إذا تفاوض الجانبان بحسن نية، وأدركا أنهما لن يحصلا على كل ما يريدان، فلا يزال من الممكن التوصل إلى اتفاق. ويشترط «الجمهوريون» أن يوافق الرئيس بايدن على خفض كبير في نفقات الميزانية مقابل موافقتهم على رفع سقف الدين، متجاهلين مطلب «الديموقراطيين» المتكرر بزيادة واضحة في سقف الاقتراض العام.
وفي مؤشر على تصاعد التوتر حول احتمال تخلف عن السداد، بعث أكثر من 140 من كبار المدراء التنفيذيين في الولايات المتحدة برسالة إلى الرئيس بايدن وقادة الكونجرس يشددون فيها على ضرورة التوصل لاتفاق حيث تبدو المخاوف من أن تكون إجراءات وزارة الخزانة مؤقتة، أو أن تتصف بعدم اليقين، ولذلك يتوجب على الكونجرس إما تعليق سقف الدين، أو رفعه في الفترة ما بين يوليو إلى سبتمبر من عام 2023 حتى تتمكن الحكومة الأميركية من اقتراض الأموال التي تسد احتياجاتها. ومن ثم يجب على الكونجرس تخطي سقف الدين نظرًا لأن الفشل في رفع سقف الدين قد يؤدي إلى آثار كارثية على الاقتصاد الأميركي والبرامج المختلفة للحكومة الفيدرالية، وقد تعوق هذه الأزمة المستمرة قدرة الحكومة على تمويل عملياتها، بما في ذلك توفير الدفاع الوطني، أو استحقاقات التمويل مثل الرعاية الطبية أو الضمان الاجتماعي والقروض وأجور العاملين والمتقاعدين والجيش. وفي المقابل ستظل هناك توقعات بأنه سيتم التوصل لاتفاق كما حدث في 78 مرة سابقة، وسيتفق الحزبان على رفع سقف الديون لتجنب تداعيات عدم الاتفاق، وهو ما لن يحدث في كل الأحوال، ولكنه التجاذب الكبير والمستمر بين الحزبين «الديمقراطي» و«الجمهوري» في الكونجرس وخارجه.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية