في بداية الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا تأرجحت سيناريوهات تطور الحرب ما بين اثنين؛ أولهما انتصار سريع ولو نسبياً لروسيا وبتكلفة بسيطة مادياً وبشرياً، بسبب الخلل في موازين القوى لصالحها.. والثاني انتصار بطيء وبتكلفة عالية بسبب الدعم الغربي المتوقع لأوكرانيا. وبمرور الوقت استُبعد السيناريو الأول، بل لقد بدأ حديث من أوكرانيا وحلفائها عن سيناريوهات هزيمة للطرف الآخر بعد أن بات واضحاً أن الدعم الغربي لأوكرانيا، وبالذات الدعم الأميركي، قد زاد من قدراتها على الصمود، بل وتحرير بعض الأراضي التي استولت عليها روسيا مهما كانت نسبتها ضئيلة، إلى جانب القيام ببعض الأعمال الهجومية في العمق الروسي بغض النظر عن محدوديتها. وإذا كان سيناريو الهزيمة الروسية مستبعداً، وذلك وفقاً للقول بأن الدول النووية لا تُهزم في حرب تقليدية، في إشارة إلى أن البديل النووي سيكون الملجأ الأخير من الهزيمة بالرغم من تعقيدات تداعياته، فإن التطور البطيء للعمليات العسكرية بدا وكأنه يقترب بالحرب من نموذج «التجمد» أو «المأزق» أو «الطريق المسدود»، وهو نموذج يكون فيه الانتصار الحاسم لأحد طرفي الحرب مستحيلًا بدون تكلفة عالية قد يصعب على الأطراف تحملها، أو تغيير جذري في قواعد اللعبة كاستخدام الخيار النووي أو حدوث تغيير داخلي في أحد طرفي الحرب يفضي إلى تخليه عن أهدافه، ومن ثم تصبح التسوية أو حتى التسليم بالهزيمة ممكناً، ومن هنا أيضاً مغزى سقوط باخموت.
إن سقوط باخموت تكرار لنموذج آزوف، ويكاد يطرح معالمَ لسيناريو قد تستمر الحرب وفقاً له، وهو سيناريو الحرب البطيئة أو حتى شديدة البطء التي تنتهي معاركها الممتدة بانتصارات روسية صغيرة أو جزئية يمكن أن تؤدي حصيلتها في النهاية إلى نصر روسي وإن بتكلفة باهظة. وبطبيعة الحال سوف تفعل الولايات المتحدة وأوكرانيا المستحيلَ من أجل منع تحقق هذا السيناريو، كما أن طول مدة الحرب قد يفتح الباب للسيناريوهات الأخرى للتداخل مع تطورات الحرب، كحدوث تغيرات داخلية في أحد الطرفين ما زالت أوكرانيا هي الأكثر احتمالا للتعرض لها، أو حدوث خلخلة في أحد المعسكرين، وهنا أيضاً يبدو المعسكر الغربي الأكثر تعرضاً لذلك، سواء بسبب تململ بعض المواقف الأوروبية نظراً للتكلفة العالية للحرب بالنسبة لها، أو بسبب احتمالات تغير رئاسي في الولايات المتحدة في انتخابات عام 2024.. وفي هذه الحالة يُفترض أن يمثل سيناريو التسوية خياراً رشيداً، غير أنه بدوره شديد التعقيد للتعارض التام بين أهداف طرفي الصراع وصعوبة -إن لم يكن استحالة- التخلي عنها. فهل آن الأوان لعمل جاد من شأنه زيادة الفرص أمام سيناريو التسوية؟ يحتاج الأمر إلى فكرٍ إبداعي للبحث عن صيغة تبدو حتى الآن مستحيلة لتقريب وجهات نظر الطرفين، وقد كانت أقرب الأفكار لذلك حتى الآن هي فكرة إجراء استفتاء شعبي بإشراف أممي في المناطق التي ضمتها روسيا، بحيث يُسأل سكانُ هذه المناطق عن رغبتهم في البقاء في ظل السيادة الروسية أو العودة للتبعية لأوكرانيا. والمفروض ألا يُغضب هذا أحداً، لأن المصير سيتحدد بإرادة شعبية. وهناك سوابق قريبة لانسلاخ أجزاء من دول (حالة كوسوفو وصربيا)، لكن هذه الفكرة مرفوضة حتى الآن من طرفي الحرب الأوكرانية، فهل تجعلها تطورات الحرب في يوم من الأيام فكرة مقبولة؟

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة