يقول الفيلسوف الأسكتلندي آدم سميث، الذي نظّر لعلوم الاقتصاد الحديث في القرن الثامن عشر: إن الجزارين أو الخبازين لو حضّروا لنا وجبة العشاء، فذلك ليس كرمًا منهم، ولكن من منطلق حرصهم على مصلحتهم الخاصة. وبناءً على نظريته تلك، فإن جُلَّ الأنظمة الاقتصادية التي نمارسها اليوم تقوم على مبدأ الحافز لتحقيق المصلحة. ومن ثم، فإن أي منتج يُطرح في السوق بخصائص وميزات معينة لن يخرج عن سياق نظرية الربح والخسارة، سواء من الناحية المعنوية أو المادية. وهنا ينبغي أن نسأل أنفسنا سؤالًا جوهريًّا: ما الحوافز التي تدفع مطوري قطاع البنية التحتية إلى أن يجعلوا عامل الاستدامة ضمن أولوياتهم؟
جميع الأطراف التي تشترك في تطوير قطاع البنية التحتية، سواء كانوا مطورين عقاريين أو بنّائين أو استشاريين أو مموّلين، يحكمهم حافز الربح والخسارة الذي ذكرناه آنفًا، فهم في الأغلب لن يصنعوا شيئًا فوق الحاجة التقليدية؛ لكن أينما وُجِدت المصلحة، تحرَّك القطاع كله نحوها. ونحن اليوم نطالبهم بتجاوز طرق البناء التقليدية، والتفكير خارج الصندوق؛ لإيجاد حلول مستدامة قد لا تتوافق مع المصلحة المالية لبعض الأطراف المشاركة في المنظومة، ولا سيّما الذين تربطهم علاقة قصيرة المدى بعملية تطوير البِنى التحتية.
وعلى سبيل المثال، كيف يكترث المطور العقاري باستخدام مواد بناء معادة التدوير وذات بصمة كربونية أقل إذا كانت أسعارها أعلى كثيرًا من المواد التقليدية، وتؤثر سلبًا في عائده المالي للاستثمار؟ لا شكّ أن تقليل البصمة الكربونية أصبح من أولويات الدول، ولا سيّما بعد اتفاقية باريس لتحقيق الحياد المناخي، لكنّنا إذا ما أردنا أن نعمّم هذا التوجُّه عمليًّا على مختلف القطاعات في الدولة، فعلينا أن نعيد النظر في الأطر التشريعية والتعاقدية التي تحفّز هذا التوجه، فيكون عامل الاستدامة ضمن معادلة الربح والخسارة لأصحاب المصلحة في هذا القطاع، وهذا ما جرّبته بعض الحكومات عبر أنظمة الحوافز أو ضرائب الكربون.
ومثال على ذلك قانون Local Law 97 (LL97) الذي أطلقته ولاية نيويورك، ليضع سقفًا للحد الأقصى المسموح به من إجمالي البصمة الكربونية للمباني التي تتجاوز مساحتها 25000 قدم مربعة، وما يفوق هذا السقف سوف يكبِّد مالكي هذه المباني غرامات مالية. ووفقًا للقانون، فإن على أصحاب هذه المباني تقليل الانبعاثات الكربونية إلى حدٍّ لا يتجاوز 2538 طنًّا ابتداءً من عام 2024، ومن ثم تقليل الانبعاثات الكربونية إلى حدٍّ لا يتجاوز 1359 طنًّا ابتداءً من عام 2030. وتُفرض غرامة قيمتها 268 دولارًا أميركيًّا على كل طن يتجاوز الحد المسموح به، بحسب البرنامج الزمني المُخطّط له. وقد سارت على هذا النهج دول عدة، مثل فنلندا والسويد وسنغافورة.
ولكن يبقى السؤال الجوهري عن مدى تأثير هذه الضرائب في المجتمع، من حيث الغلاء المعيشي؛ فمن الطبيعي أن يتحمل المستخدم الأخير الثمن من جراء الزيادة العامّة في تكلفة البنية التحتية؛ فما الطريقة المُثلى للموازنة بين الاستدامة البيئية والاستدامة الاقتصادية للمجتمعات؟ وتلك حسبة معقدة ينبغي أن تُدرس بعناية من منظور شمولي يأخذ بالحُسبان الدروس المستفادة من الدول ذات التجربة في هذا المجال.

*أستاذ مشارك بقسم الهندسة المدنية – جامعة الإمارات