ما الشعر؟ وما علاقته بالمدينة؟ سؤالان أساسيان أطرحهما. للشّعر معنيان كبيران: الشعر كصُنع وإنشاء، وهو المعنى الذي انحدر إلينا من الثقافة اليونانية. والشّعر كمعرفة وعلم، وهو المعنى الذي انحدر إلينا من الثقافة العربية، وأعتقد أن من هذين المعنيين تركّب مفهوم الشّعر عبر الأجيال، فارتبط بالتّخييل لقدرته الكبرى على التّخليق، وارتبط بالمقدّس لقدرته الكبرى على التّعليم. ومع وعينا بطبيعة الشّعر وماهيته الحقيقية، ننطلق من فرضية تزعم أن الشعر أحد موجودات المدينة، حيث إن الشعر، رغم كمالاته المفترضة، يوجد في المدينة على جهة الضرورة؟
أقف هنا عند ثلاث ملحوظات تنزع بالباحث إلى القول إن الشعر يوجد في المدينة على جهة الضرورة، إحداها: ملحوظة تاريخية، والثانية ملحوظة إبستمولوجية مرتبطة بتصنيف المعرفة العلمية، والثالثة ملحوظة ثقافية تندرج ضمن التداول العربي الإسلامي.
تقودنا الملحوظة الأولى إلى علاقة المدينة الإغريقية بالشّعر كما مثّلته الإلياذة والأوديسا، ها هنا نقول إن علاقة الشعر بالمدينة هي علاقة على جهة الضّرورة، لأن التاريخ ينبئنا أن شعر هوميروس هو الذي صنع الإغريق لغة، ودينا، وأمة، فقد عمل هذا النّص التراجيدي على تشكيل أمّة كانت ممزّعة، ولا رابط بينها. لقد صنع شعر هوميروس باليونان ما صنعه، ومن هنا اعتبر هوميروس المربي الأول لليونانيين، حيث سيطر الشّعر على مناحي الحياة الرّوحية عند اليونانيين إلى عهد أفلاطون، كما هيمن القرآن الكريم على مناحي الحياة الرّوحية عند المسلمين، ولا يزال.
الملحوظة الثانية، وهي ملحوظة معرفية، ترتبط بتقسيم المعرفة داخل المدينة، فهناك ثلاث طرق للعقل يبحث بها عن الحقيقة، البحث النّظري التّأمّلي الذي يتساءل حول طبيعة الأشياء، ثم البحث العملي الذي يرتبط بالسياسة والأخلاق، ثم هناك بحث آخر يتوسط هذين البحثين وهي دراسة الفعل ودراسة الإنتاج، يرتبط هذا الأخير بالتساؤل كيف ننتج آثاراً ومؤلفات؟ وصلته بالإبداع الفني أوثق، وأمتن. ومعنى الشعر عند اليونان مرتبط بهذا الملحظ الثاني.
إن هذه الضرورة المفترضة للشعر في المدينة ليست غريبة عن المدينة الإسلامية، وهو الملحظ الثالث، حيث نجد كُلاًّ من حازم القرطاجني، وعبد القاهر الجرجاني يؤسسان لهذا المعنى، فحازم كان حريصاً في «مناهج البلغاء» على تعليم الشّاعر القوانين الشعرية التي يجب عليه الانضباط لها لاعتقاده بضرورة الشاعر الجيّد للمدينة بجميع أطيافها. إذ الشّعر، عنده، لا ينحصر في نخبة المجتمع بل يمتد إلى جميع ساكنة المدينة، فأفضل الشّعر، كما يقول حازم، ما كانت معانيه جمهورية ومتداولة بين الخاصة والجمهور، وليست مقصورة فقط على الخاصّة وحدها. أما عبد القاهر الجرجاني، في دلائل الإعجاز، فاعتبر الشعر أحد المداخل القوية لفهم القرآن الكريم، بل إنه اعتبر الصّادّ عن قراءة الشعر الجاهلي صادّاً عن كتاب الله تعالى. وهكذا استطاع هذا الناقد الكبير أن يفتح أبواب المدينة الإسلامية للشّعر المطلق، ويجعل الشّعر أحد موجوداتها التي لا تنفكّ عنها، ومن هنا يمكن اعتبار الشّعر، إلى جانب الفلسفة، ضروريان في كمال المدينة. 

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية