لا يمكن تخطي منظر الغرابة الظاهرة في تعرجات الدهشة على جبين الأجداد والجدات المتتبعين بحرص كل كلمة تخرج من أفواه مقدمي البرامج التلفزيونية، الإخبارية بشكل خاص، لتنتقل التصريحات و«العواجل» لصدر بيتنا، ناشبةً معركة ناقدةً مقارِنة لكل الحيثيات والمستجدات مع «العادة القديمة»، وبالتحديد في نطاق «المسموح والممنوع». 

فقد اعتدنا على حريتنا التي تشكل جزءاً كبيراً من نزعتنا الفردية، حتى أصبحت بالنسبة للإنسان تماماً، كعرضه وشرفه الذي يدافع عنه طوال حياته. فـ «يحق لك ولا يحق»، هو مبدأ أول يمكن اعتماده عند الحديث عن حرية الإنسان، هذه الكلمة السهلة الممتنعة التي تنطوي على قيمة جوهرية أكثر مما تدل عليه كاصطلاح، فالحرية هي تمثيل إنساني فكري وسلوكي بعيد عن مستلزمات العبودية والتقييد والتطويع كافة، أو الجور على الكرامة الإنسانية، ولذا نجد أن القوانين الدولية كافة ودساتير الدول سنت مواد خاصة بذلك. 
وفي صورة بهية، وملفتة للشعور الإنساني، نجد أن تكريس الحريات نابع من السعي الخَّيِّر المستمر لتشييد شبكة «إنسانية كونية» بخيوط ذهبية، نسجت على التوافق القيمي والتلاقي الزماني رغم اختلاف الجغرافيا، فهي قائمة على أعمدة مادتها الخام «الواقع»، ومكنونها «الحقيقة»، ونتاجها إشباع الحاجات الإنسانية من تعبير عن الرأي والشعور والانفعال والتفكير، وغيرها من الجوانب السامية التي تتلاقى مع «الآخر» بصورة ودية رائعة، إذ يمثلها هنا تفسير مغاير تنزله رغبتنا في الإشارة لوجه آخر للحرية من قصيدة الشاعر إبراهيم ناجي، حين قال: «أعطني حريتي أطلق يديَّ»، والتي ترمز -بمنظورنا- لأن الحرية لا يمكن أن تستند إلى فردية لا تكترث بالآخر، بل هي تمثل رد فعل على فعل آخر ما يعني ترابطاً إنسانياً وتشاركاً وتبادلاً. 
بدا العقل الإنساني، آلة مستمرة في التحرك إزاء كل المعارف، سيما في ظل تبدل موجوداته وممتلكاته الفكرية قبل المادية، وهذا ما يقف وراء اعتبار التفسير الدقيق للحرية أقرب للاستحالة، فهي ضد الخضوع القسري في اللغة، وهي التصرف ضمن مجتمع منظم بقوة قانونية ملمة في التفسير القانوني لها، كما تجد لها تفسيراً في علم النفس، ولدى أهل الفقه، وغيرهم من اختصاصي العلوم وتفرعاتها، ولكنها مجتمعةً تشترك في تأثرها بمعطيات الواقع، لتجد أن تشكيل الحريات الخاصة بالأفراد في مجتمع تختلف لدى غيرها من المجتمعات، غير أنها تعود للاتحاد على فكرة «الاتجاه من الخاص إلى العام» بمعنى أن الحرية لم تعد تنحصر على الفرد، بل باتت تعبر عن شريحة اجتماعية، وهي فكرة أشار لها الفكر الفلسفي القديم بالتعبير عن المجتمع بدل الفرد لاعتبار الأول تمثيلاً صادقاً عن تركيبه الثاني، فلا يمكن أن يوصف مجتمع بأنه متقدم في «حرية التعبير»، ونجد أن هذا الحق منزوع لدى الأفراد، فـ «كل وعاء بما فيه ينضح»، وكل مجتمع بما يضم من تركيب حقوقي إنساني ينتج. 
ولأن الإنسان متداخل ومتنوع المجالات في حياته الحقيقية المعيشة، فقد تشعبت أشكال الحريات المأمولة له، أو كما تسمى بالحريات العامة «Les libertés publiques»، وهي تلك التي انطلقت من كونها مبدأ، وثبتتها القيمة القانونية بالموافقة عليها وصياغتها، وهنا وجب التنبيه لأن الحرية التي نتحدث عنها مختلفة عن الحقوق رغم ظاهر تشابههما، فالحق محدد لا يمكن تخطيه أو تجاوزه، من مثل حق الإنسان بالحياة، وحق العمل، وحق التدين، وقد ارتبط في الإلزام القانوني للغير بعدم التعدي على ذلك، أما الحرية فهي أكثر عمومية من حيث المعنى وسياقات التنفيذ. 

ولكن، هل تستحق الحرية كل ذلك الاهتمام في تفصيل جزئياتها الدقيقة، أم أن ضرورياتها تثبت نفسها في الواقع الإنساني باعتبارها قيمة ذات مكانة معنوية عالية؟ ويبدو هنا أن للحرية دورة حياة مثلها مثل الكائنات الحية كافةً، ولكن ما يميزها هو عدم احتفاظها بالجينات الوراثية ذاتها، فهي دورة متقلبة ومختلفة في استدارة محورها من إنتاجها لتحولها لمرحلة جديدة بخصوصيات مختلفة، ومن أجل تزامن هذا التغير والتحولات المحفوفة بها النابعة من المجتمع الإنساني «كثير الحركة»، لزم الاتجاه نحو تأصيل أسس وقواعد لتلك الحرية و«أخواتها»، وتوضيع لأجزائها ومحدداتها، وبخاصة لارتباطها العميق بالمكانة المجتمعية وتقييمها على سلم «الالتزام القيمي» من جهة، و«البراحة الإبداعية» من جهة أخرى، وبالتالي هناك علاقة طردية بين الحرية ونهضة المجتمعات. 

إن الواقع الإنساني اليوم يعيش حالة من الاغتراب عن الكثير من المفاهيم، وبخاصة في ظل الانغماس اللاواعي، في معطيات تفوق ما توقعه يوماً، وبالتالي فإن التذكير المستمر وتجديد القراءات للحرية، هو تفعيل صريح لوظائفها، وتوعية «مستدامة» للمجتمعات، إذ لا يمكن إهمال المنظومة الفكرية المعنية بالتثقيف، والإحاطة بحدود الحق والواجب، والإلمام بالتداخلات والتوافقات مع الإرث الإنساني في مجال الحريات، التي تؤدي مجتمعةً لبناء اجتماعي متماسك وقوي ومتوازن وقادر على مواجهة تحدياته، في تيار إنساني متحد الهوية «الإنسانية»، محتضن لزخم ثري من التنوعات الدينية، والفكرية، والسياسية، الأمر الذي يمكن أن يتحقق بتجاوز مرحلة «الكبوة» الدلالية والمفاهيمية والتحليلية، والانتقال لانفتاح فكري خلاق، مشبع بالوعي، فمرحباً بالحرية طالما هي محرك الإبداع والنهضة! 

أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة