النجاح الدبلوماسي الذي حققته الصين بالتوسط بين إيران والسعودية قبل أسابيع ليس النجاح الأول في غضون السنوات القليلة الماضية، بل إن السياسة التي تنتهجها بكين في منطقة الشرق الأوسط تعد تفوقاً دبلوماسياً كبيراً في ظل التوترات التي تمر بها دول المنطقة مع الولايات المتحدة الأميركية التي من جانبها تحاول اليوم استعادة دورها في المنطقة ومد يدها لمصافحة بعض الدول الكبرى والمؤثرة في الشرق الأوسط، والمنطقة العربية على وجه التحديد. ولكن السؤال هنا: من الذي نجح في كسب الزخم الأكبر في المنطقة، الصين أم أميركا؟
يقول وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر: «الولايات المتحدة لم تعد تلك القوة الوحيدة التي لا يمكن الاستغناء عنها في المنطقة، إذ أن الصين أصبح لديها من القوة ما يؤهلها للمشاركة في صنع نظام عالمي جديد»، وهذا الرأي يتفق تماماً مع ما قالته «أونا سيرينكوفا»، رئيسة مركز الدراسات الصينية بجامعة «ريغا سترادينز» في لاتفيا إن «الصين تريد تعزيز دورها وتأثيرها على الساحة العالمية، عبر الانخراط بشكل أساسي مع أي دولة قد لا تكون على مسافة واحدة مع الولايات المتحدة أو لديها آراء سلبية حول النظام العالمي الحالي، وأن الصين تحاول التحدث إلى الجميع، فيما يتسم نهجهما بالبراغماتية أكثر منه بالإيديولوجية، وهو الأمر الذي يمكنها من أن تصبح طرفاً ذا نفوذ في عقلية صناع القرار بدول أخرى، مما قد يدفع الولايات المتحدة للاعتقاد بأن الصين حاضرة في المحافل الدولية ويمكنها التأثير على الأمن العالمي». ومن المهم عدم تجاوز تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد زيارته للصين في أبريل الماضي والتي أثارت جدلاً كبيراً، إذ أكد ماكرون على ضرورة ألا تصبح أوروبا تابعة للولايات المتحدة، ليعلق لاحقاً رئيس المجلس الأوروبي على هذه التصريحات بالقول:«قادة الاتحاد يميلون لتوجه ماكرون بشأن الاستقلالية الاستراتيجية عن الولايات المتحدة»، وهذا قد يفضي إلى تغير ولو طفيف في الموقف الأوروبي تجاه الحرب في أوكرانيا، وقد تكون بمثابة كرة الثلج حول استقلال السياسة الأوروبية عن واشنطن، على غرار السياسة التي أسسها ديغول بشكل متفرد وهو الخارج من الحرب العالمية الثانية وبلاده مدمرة اقتصادياً وسياسياً، ورغم ذلك حقق مكانة دولية بالنأي عن التبعية للسياسة الأميركية. فهل الأيام القادمة تخفي تراجعاً في المواقف للمعسكر الغربي تجاه الحرب الأوكرانية مثلاً، ولو في طريق الحياد، كما فعلت الصين؟ 

في كتابه «الوهم الكبير -صعود وسقوط الطموح الأميركي في الشرق الأوسط»، شرح ستيفن سايمون العضو السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي وخبير الشرق الأوسط كيف تراجع دور الولايات المتحدة في المنطقة، وانهيار العلاقة بين واشنطن وحلفائها، بعد أن كان الشرق الأوسط ذا أهمية قصوى لدى الإدارات الأميركية السابقة وتحرص على تحالفاتها ومرونة علاقاتها مع كل أقطابها، ومؤلف الكتاب يروي قصة ثماني إدارات رئاسية أميركية متعاقبة في سياستها التي يراها في الغالب غير ناجحة تجاه الشرق الأوسط ووصفها بـ«ثمانية أنواع من الفشل».
تصعد الصين اليوم، اقتصادياً ودبلوماسياً، بشكل متسارع وبحصافة تؤهلها لاستثمار الفراغ الذي تركته السياسة الأميركية، جراء تباين مواقفها مع المنطقة من إدارة لأخرى، مما جعل الصين خياراً استراتيجياً ناجعاً لدول الشرق الأوسط لما تتميز به من مرونة وتبادل في المصالح قائم على مبادئ الاحترام والشفافية.
*كاتبة سعودية