يمر الجنس البشري حالياً بأكبر مرحلة تاريخية من «التمدين»، أي الانتقال من حياة الريف إلى الحياة في المدن والحضر. فحالياً يعيش في المدن أكثر من نصف سكان العالم. ومع حلول عام 2030 يتوقع أن يبلغ عدد سكان المدن نحو خمسة مليارات نسمة. وهو ما يتوافق مع التقديرات السابقة للأمم المتحدة بأنه بحلول عام 2008 سيصبح أكثر من نصف أفراد الجنس البشري من سكان المدن، مع التوقع بأنه بحلول عام 2050 سيصبح 64 في المئة من أفراد شعوب الدول النامية من سكان المدن، و86 في المئة من أفراد شعوب الدول الغنية من سكان المدن أيضاً. وعلى ما يبدو أن هذه الظاهرة لن تتوقف أو حتى تتراجع خلال الأعوام والعقود القادمة، حيث تشير التقديرات إلى أن النمو السكاني البشري حتى عام 2030، والذي يقدر بأكثر من مليار شخص خلال الاثني عشر عاماً القادمة، سيقع جله ومعظمه في المدن.
وبذلك تصبح المدن هي مكان المعيشة والموطن البيئي الأكثر انتشاراً واستخداماً من قبل أفراد الجنس البشري، وبدرجة مهولة في كثير من الأحيان. فعلى سبيل المثال، يوجد حالياً العديد من المدن التي يتخطى عدد سكانها العشرين مليوناً، مثل «أوساكا»، «كراتشي»، «جاكرتا» «مومباي» شنغهاي مانيل سيؤول، وبكين مع التوقع أن يتخطى عدد سكان طوكيو ودلهي، حاجز الأربعين مليون نسمة خلال العقد القادم. وحتى مدن مثل القاهرة واسطنبول، ونيويورك ولندن ولاجوس وساو باولو، ومكسيكو سيتي يقطنها حالياً أكثر من عشرة ملايين نسمة، ويقارب عدد السكان بعضها على العشرين مليوناً.
وفي الوقت الذي تمنح حياة المدن مزايا عدة ورفاهيات متنوعة، تحمل أيضاً في طياتها سلبيات وتحديات في العديد من الجوانب، البيئية، والاجتماعية، والصحية. فعلى الجانب الصحي، ورغم أن حياة المدن توفر مستويات أفضل من الرعاية الصحية، ومن مياه الشرب، ونظم الصرف الصحي الحديثة، إلا أن كل هذا لم يُترجم إلى زيادة ملموسة في متوسط العمر، أو مؤمل الحياة بالنسبة للحياة الريفية. ويعود السبب في ذلك إلى التمدين، وخصوصاً المتسارع منه، تصاحب بزيادة في معدلات الوفيات من الأمراض المزمنة غير المعدية المرتبطة بنمط وأسلوب الحياة، مثل أمراض القلب والشرايين، والأمراض السرطانية، وحتى معدلات الوفيات الناتجة عن الأمراض المعدية، تتباين حسب المرض وحسب النطاق الجغرافي.
وبناء على هذا الواقع الديموغرافي المحلي لأفراد الجنس البشري، وانطلاقاً من التوقعات المستقبلية بزيادة نسبة سكان المدن من إجمالي سكان العالم، ظهر مصطلح أو مفهوم المدن الصحية (Healthy City)، والذي أصبح يستخدم في مجالي الصحة العامة والتخطيط العمراني أو الحضري، للتعبير عن العلاقة بين البيئة المدنية والسياسات العامة وبين صحة الإنسان. ويعتمد هذا المصطلح أو المفهوم في تعريفه على مبادرة منظمة الصحة العالمية التي حملت اسم «مدن وقرى صحية»، وأطلقتها المنظمة الدولية عام 1986، والذي ينص على أن المدن الصحية هي تلك التي توفر وتطور بشكل دائم ومستمر للبيئات الطبيعية والاجتماعية التي يحيا فيها سكانها، مع السعي الدائم لزيادة المصادر المجتمعية التي تتيح للأفراد مساعدة ودعم بعضهم بعضاً، في تأدية المهام والوظائف اليومية، والاستمتاع بالجوانب المختلفة للحياة.
وباختصار، تتصف هذه المدن ببعض الصفات التالية: التحفيز والتشجيع على ممارسة النشاط البدني، وتحسين نوعية الهواء وخفض مستويات التلوث به، وخفض مساهمة سكان المدينة في ظاهرة التغير المناخي. وينبغي أن تتسم بخفض احتمالات الإصابة من حوادث الطرق، أو حوادث السقوط، وغيرها من مصادر الإصابات الخطيرة، والتشجيع والتحفيز على تجنب الأطعمة المصنعة المحتوية على مضافات كيميائية، أو مواد حافظة، أو نسب مرتفعة من المبيدات الحشرية. وتتسم كذلك بزيادة سبل التواصل والتفاعل الاجتماعي، وتعميق حس الانتماء لدى المواطنين.
ويمكن تحقيق هذه الأهداف من خلال إجراءات وتدابير خاصة، مثل توفير منتزهات ومساحات خضراء لاستخدام المواطنين، وتصميم مرتكزات مجتمعية تتضمن أماكن السكن، والعمل، والمدارس، وأماكن الترفيه، ضمن حيز جغرافي محدود يمنح فرصة التنقل بينها جميعاً بسهولة ويسر. ويعتبر توفير وسائل نقل ومواصلات عامة من المكونات الأساسية للمدن الصحية، وبالترافق مع أرصفة جيدة البناء للمشي والتنزه، وممرات لاستخدام الدراجات الهوائية، وهي إجراءات من شأنها جميعاً أن تقلل من الاعتماد على السيارات الخاصة، وتقلل من تلوث الهواء، وتزيد من فرص ممارسة النشاط البدني بشكل طبيعي.
ومما لا شك فيه أن تحقيق هذه الأهداف، من شأنه أن يخفض المشاكل الصحية التي يتعرض لها سكان تلك المدينة، وأن يخفض بشكل مباشر أو غير مباشر من التوتر المزمن في حياتهم اليومية، وهي جميعها عوامل ستنعكس إيجاباً على حالتهم النفسية وترقى بهم في اتجاه تحقيق مقدار أكبر من السعادة المجتمعية.