يقول الدكتور مقداد بالجن، الحاصل على جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية، إن المسلمين الأوائل تقدموا في ميادين العلوم والمعارف والقوة العسكرية والاقتصادية، حين كان الاجتهاد في التعليم والعناية به تصل بأحد طلبة العلم سمع محدثاً في مكة يقول إن لديه خمسة أحاديث يريد التحقق من صدقها من محدّث آخر في البصرة، فتكبّد الطالب مشقة السفر لذلك الغرض. أما اليوم، فيقول بالجن، إن طلابنا يشعرون بالإرهاق والتعب لو أردنا تزويدهم بمعلومات محدودة، وهم جالسون في مقاعدهم!
عندما سألَ بالجن مسؤولاً كبيراً في إحدى الدول المتقدمة حول سر تقدم بلاده، أجابه بالقول: لسنا أكثر ذكاءً منكم، لكن عقولنا تعمل للنهوض بمجتمعنا والارتقاء به، بينما تعمل عقولكم للمصالح الشخصية وتعبئة الجيوب!
وقبل 30 سنة قال وزير تربية ياباني، إن سر تقدم بلاده يكمن في تنشئتها أجيالَها على منهج التربية الأخلاقية، حيث تتكون لدى هذه الأجيال روح التضحية من أجل المزيد من التعلم، حتى شاعت قصة الطالب الياباني الذي فقد أبويه، فكان يحتطب على ظهره من الغابة لتوفير نقود يتعلم بها ويذاكر في الطريق، فجعلته اليابان رمزاً وطنياً لها. لذلك عندما عاد بالجن من اليابان، حيث دُعي لإلقاء محاضرات في جامعاتها، قال: عجبت من كونهم إذا وَجَدَوا مالاً في الطريق يؤدوه إلى صناديق الأمانة، ولا يأخذون منه شيئاً.
كما شدد بالجن على فضيلة أخرى من فضائل المجتمعات المتقدمة، ألا وهي الأمانة العلمية التي تتم مراعاتها بصرامة تامة في هذه المجتمعات، لاسيما في البحوث والامتحانات والصناعات. لذلك يَذكر أن أحد الباحثين المسلمين ذهب إلى ألمانيا لإجراء بحث لقياس مدى رسوخ الأمانة العلمية فيها، ومراقبة طلابها أثناء الامتحانات، وبعد الاتفاق مع الإدارة والأساتذة على إجراء البحث، ذهب فوجد الأساتذة مجتمعين، فقال: «أريد دخول قاعات الامتحانات». فقالوا: ادخل كل القاعات، فقال: وأنتم، ألا تراقبون؟ فقالوا: لدينا اجتماع ولا نضيع الوقت في المراقبة. فلما تجول في قاعات الامتحان الخالية من المراقبين، وجد الطلاب منهمكين في الإجابات، لا يلتفت أحد إلى غيره، أي لا وجود لظاهرة الغش الدراسي لديهم.
ولعل المجتمعات المسلمة بدورها تمتلك كثيراً من أسباب التقدم، وفي مقدمتها الروح العقدية. وهذا ما قاله الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون: «إن من يمتلك القوة الروحية ينتصر على مَن يفقدها، ولهذا فإن الاتحاد السوفييتي سوف يُغلب.. سنغلبه نحن لأن لدينا إيماناً بالمُثل وهم يفتقدونها. ليس بوسع السيوف في موسكو أن تهزم قوة الروح في الغرب، وليس بوسع الشيوعية المعادية للإيمان أن تحقق الغلبة».
الحضارة الإسلامية هي التي علّمت العالم الحديث التفكير كفريضة، حيث استطاع المسلمون ترجمة كل آثار الحضارة، وأصبحت ظواهر الطبيعة على أيديهم علماً.. لكنهم لم يواصلوا نهضتهم الفكرية والعلمية الكبرى، بل انتقلت إلى أوروبا التي تلقفتها عن طريق الأندلس، فطورتها وبنت عليها نهضتها الحديثة. إن أوروبا امتداد حقيقي للحضارة الإسلامية، لاسيما بعد أن أغلق المسلمون باب الاجتهاد، أي باب التفكير الحر، فكانت النتيجة أن توقف التطور العلمي والحضاري ودخلنا مرحلة انغلاق العقل، بينما تقدم الغربيون حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم.