ما كان المرء ليصدق النجاح غير المسبوق للإضراب الشامل الذي تم يوم الاثنين الأول من أكتوبر الجاري، بعد أن دعت له «لجنة المتابعة للوسط العربي الفلسطيني في أراضي 48»، وغيرها من قوى ومؤسسات في الضفة الغربية وقطاع غزة، احتجاجاً على «قانون القومية» الإسرائيلي.. لولا أنه رأى بأم عينه كيف توحد، على امتداد فلسطين التاريخية، نضال الفلسطينيين في فلسطين 48 وفلسطين 67، ضد عنصرية الكيان الصهيوني، حيث شمل الإضراب مناحي الحياة كافة، من مدارس وأسواق وجامعات ومؤسسات خاصة ونقل عام.. في مؤشر لرفض فلسطيني تام لإلغاء حق العودة وتقرير المصير، ورفض المؤامرات والمشاريع التصفوية التي تستهدف المشروع الوطني الفلسطيني.
وهذه رسالة، ليس إلى حكومة اليمين المتطرف فقط، بل أيضاً إلى العالم أجمع، بوحدة الشعب الفلسطيني في مقاومة المشروع الصهيوني، والصفقات الرامية لتصفية حقوقه، وفي مقدمتها «صفقة القرن» التي تستهدف ضرب المشروع الوطني الفلسطيني.
لقد أتيحت لي فرصة رؤية الإضراب في فلسطين 48 ،وفي مدن الضفة الغربية، ولولا وضع قطاع غزة الخاص وحصار جيش الاحتلال الإسرائيلي له، لكنت قد زرته ورأيت الإضراب هناك، لكن شاشات المحطات الفضائية كفتنا مؤونة هذا الأمر. وفي ظني أن نجاح الإضراب الشامل في فلسطين التاريخية مؤشر على منحى جديد يتخذه الصراع على كل أرض فلسطين، بين إسرائيل بصفتها دولة احتلال وتمييز عنصري، وبين الفلسطينيين الذين يعانون سياسات الكيان الصهيوني، وهو الدافع الأساس في موافقة «الداخل الفلسطيني» ككل للمشاركة في الإضراب والحرص على إنجاحه. ففي فلسطين 48 هناك قوانين عنصرية وتطرف ويمينية فاشية ترفض الآخر، وفي الضفة الغربية احتلال واستيطان ومصادرة أراض، وتطهير عرقي وقتل وقمع، فيما يعاني قطاع غزة حصاراً شاملاً يدمر فيه مناحي الحياة ويزيد الفقر والبطالة.
ولعله من أبرز المكاسب التي تحققت جراء الإضراب ذلك الشعور الجميل بأنه رغم كل المحبطات الفلسطينية والعربية والدولية، فإن القضية الفلسطينية حية ونابضة في قلوب وعقول الفلسطينيين المرابطين والمنزرعين في ترابهم الوطني، مع تذكير متواصل للمجتمع الدولي بأن إسرائيل كيان غاصب غير شرعي، قام على حساب سلب أرض وتشريد شعب فلسطين العربي، مع المحاولات الراهنة المشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة لإسدال الستار على مسيرة القضية وعلى المرجعيات والقرارات الدولية ذات الصلة.
يؤشر الإضراب الشامل، في ظل انسداد طريقي المفاوضات والمقاومة في هذه المرحلة، إلى ضرورة الإعداد للوصول إلى العصيان المدني، الذي يعني «تعمُّد مخالفة قوانين وطلبات وأوامر محددة لحكومة احتلال دون اللجوء للعنف». وهو من الأساليب المركزية للمقاومة السلمية، وأحد الطرق التي ثارت بها شعوب عديدة على القوانين الجائرة، كما استخدِم في حركات مقاومة سلمية للاحتلال، وحملات شعبية من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية ونيل الحقوق المدنية. في هذا السياق، نستذكر الإضراب الفلسطيني الكبير في عام 1936.
فحين أعطى «الانتداب البريطاني على فلسطين» ما يملكه الشعب الفلسطيني لمن لا يستحق، آمن الشعب يومها بأنْ لا خيار لديه غير المقاومة السلمية، فدخلت البلاد في حالة إضراب عام احتجاجاً على السياسات البريطانية الموالية للصهيونية، فكان أطول إضراب في التاريخ. كما نستذكر الانتفاضة الأولى (1987) التي تميزت بحركة عصيان مدني كبيرة ومظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي امتدت بعد ذلك إلى كامل فلسطين المحتلة عام 1967.
لقد جرّب الشعب الفلسطيني المفاوضات لأكثر من 24 عاماً، ولم يحصد سوى المزيد من الذل وخسران ما تبقى من أرض، فيما افتقرت الفصائل الفلسطينية التي اعتمدت المقاومة المسلحة إلى استراتيجية واضحة تحدد الهدف والوسيلة وباتت عملياتها غير مجدية. من هنا، يتجلى الحل الأنجح في إعادة تفعيل المقاومة الشعبية بأدواتها المختلفة وعلى رأسها العصيان المدني الذي جُرِّب فلسطينياً وإقليمياً ودولياً وآتى ثماره بشكل جيد وحقق أهدافه، فهو سلاح يحقق إنجازات في عدة جبهات في ظل قيادة شعبية موحدة: أولها، أن الاقتصاد الإسرائيلي مرتبط بالعمال والمستهلكين الفلسطينيين، لذلك يكبده العصيان المدني خسائر فادحة. ثانيها، أنه يضع الاحتلال في موقف لا يحسد عليه أمام العالم الذي سيتساءل عما فعلته إسرائيل حتى تجبر الفلسطينيين على العصيان ووقف حياتهم؟ ثالثها، أن العصيان سيُظهِر للعالم أجمع أن القضية الفلسطينية لا تقتصر على قطاع غزة المحاصر دون الضفة الغربية أو فلسطين 48، ما يفتح الباب واسعاً أمام كل متضامن، سواء أكان فرداً أم مؤسسة، للوقوف إلى جانب شعب مسالم يعتمد نضالا شعبياً سلمياً.
العصيان المدني في وجه احتلال استيطاني إحلالي قائم على الآبارتايد أكثر فاعلية من غيره، بل إن الكاتبة الإسرائيلية وناشطة السلام «ايلانا هامرمان» توسع أفقها للمطالبة بمشاركة اليهود الإسرائيليين من أنصار السلام في العصيان المدني ضد الاحتلال، وتقول: «في الظروف الحالية وإزاء القوانين الجديدة، وتوسيع المستوطنات، وإنشاء بؤر استيطانية جديدة، فإن المعارضة المناسبة الوحيدة هي العصيان المدني، حتى لو بدأ به فقط نحو 200 من الموقعين على بيان رافضي بقاء الاحتلال في الأراضي الفلسطينية 1967. هذا الصوت -من قلب المجتمع الإسرائيلي- يمثل علامة مميزة ومهمة في الطريق، علامة مفيدة ومشجعة وصحيحة».