ثورات تحررية، وحكومات عسكرية، وديكتاتورية النخّب والفساد..وعملات تنهار، وكساد وكوارث طبيعية، وسط ارتفاع المديونية وركود الأجور وفائض العرض مع ضعف الطلب، تجسّد حجم المعاناة التي مرت بها شعوب قارة أميركا اللاتينية لفترات طويلة. وبالمقابل تنال من قدرة القارة على الصمود في وجه كل الأزمات وإعادة برمجة اقتصادياتها بصورة غير مسبوقة مقارنةً بحجم التحديات التي كادت أن تعصف بها مراراً. وفي كل مرة تعود دول القارة الكبرى لتزيل عن وجهها الكالح غبار النكسات وتغيّر قواعد اللعبة، وتؤثر على الساحة الاقتصادية للقرن الحادي والعشرين بما تمتلكه من قدرات وإمكانيات كامنة في مواردها الطبيعية، ورأس مالها البشريّ الذي يريد التغيير بأي ثمن.
فإذا نظرنا إلى المؤشرات الاقتصادية قصيرة الأمد، لن نتحدث عن قارة أميركا الجنوبية كقارة قادمة بقوة للتأثير على اقتصاد القرن الحادي والعشرين- على الرغم من أن البرازيل تعدّ ثامن أكبر اقتصاد بالعالم- ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار المؤشرات طويلة الأمد سندرك أن دول القارة ستكون لاعباً رئيسياً في أهم المسارات الاقتصادية المستدامة، بعكس بعض الدول المرشحّة أن تكون بين أكبر عشر اقتصاديات في العالم. ولكن نسبة التلوث على سبيل المثال والمساهمة في الانبعاثات السلبية للغازات السامة، وضعف استعدادها لتبعات التغيير المناخي تجعلها محل تساؤلات معقدة ليس لها إجابة، خاصة أن بعض دولها يعاني قرابة 30% من شعبها أمراضاً رئوية بسبب نسبة التلوث المرتفعة، وفاتورة صحية كبيرة تتبعها فواتير طاقة وغيرها، مما سيؤثر حتماً في المستقبل على مشاريعها التنموية ومما سيفرض عليها خيارات صعبة بحكم التزاماتها الدولية في الأعوام القادمة.
وفي المقابل، تحاول العديد من البلدان في أميركا الجنوبية وأميركا الوسطى استخدام قالب مختلف للنمو: أقل تركيزاً على السرعة، وأكثر تركيزاً على الاستدامة بعد التحول في التسعينيات إلى نظام السوق الحرة، ومعالجة تباطؤ النمو في قطاعات مثل: الزراعة الإقطاعية والسياحة والتعدين والغابات، والتركيز على قطاع الصناعات التحويلية، وجذب كبار شركات التصنيع في العالم وتشجيع السياحة البيئية، والزراعة التعاونية والمنتجعات السياحية، والبحث العلمي والاقتصاد المعرفي، مدركة أن أفضل مقياس للصحة الاقتصادية طويلة الأجل هي قدرة الأمة على إطعام شعبها، وترك ما يكفي من المنتجات للصادرات، مقارنةً مع آسيا على سبيل المثال التي تجد فيها منغوليا وتيمور الشرقية فقط لديهما القدرة على إنتاج ما يكفي لإطعام سكانهما. ومن جهة أخرى، تتمتع أميركا اللاتينية بموارد مائية هائلة وأراضي زراعية تعدّ من بين الأخصب في العالم، ناهيك عن احتياطات كبيرة من النفط في عدد من الأماكن، ومنتجاتها من خام الحديد والصلب، فضلاً عن ربع مخزون النحاس في العالم، وهي مواد ستلعب دوراً حيوياً في الأسواق المستقبلية.
ومن الإيجابيات المهمة في دول أميركا الجنوبية الاهتمام الكبير ببرمجيات الأتمتة والذكاء الاصطناعي والصناعات الذكية، والتي من المتوقع أنها ستدر سنوياً على القارة 500 مليار دولار بحلول عام 2030، كما أن جميع الدول في القارة تحتفظ بتراث أوروبي قوي يؤثر على الإنتاجية والتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية والصين وأوروبا. ولطالما اعتُبرت أميركا اللاتينية منطقة على حافة النجاح والازدهار، لكن الفساد والتفاوت المتزايد يصيبان الكثير من بلدانها، والحلول ليست سهلة ؛ ولكنها ليست مستحيلة مع التغيير الكبير في السنوات الأخيرة فيما يتعلق بالمساءلة القانونية وكسر دوائر الفساد، وظهور هيئات قضائية مستقلة تسمح بمقاضاة الفساد. مع بقاء معضلة اتخاذ إجراءات صارمة ضد تضارب المصالح بين رجال الأعمال وآلية وكيفية تمويل الوصول لسدة الحكم في تلك الدول. وهناك مناقشات واسعة على مستوى جميع الدوائر في تلك المجتمعات حول كيف يمكن للتكنولوجيا المساعدة في الحد من الفساد في المناقصات، وتتبع الأموال العامة والمساءلة الحكومية، وإيجاد حلول للتعاون بين القطاعين العام والخاص إلى جانب اللامبالاة الاجتماعية.
والعمل جار في القارة على تقديم حوافز للشركات الخاصة كجزء من نهج أوسع للحد من الفقر، وإنشاء أطر وحوافز لاتخاذ إجراءات أخرى لنجاح الأعمال، وليس فقط الأرباح. وهناك جهود حقيقية وصراع مفتوح للخروج من عباءة التجارة غير الشرعية وأثرها في المجتمعات. ويبدو لي أن الجهود المبذولة في كل دول القارة، والتي هي نتيجة تطور تكنولوجيا الاتصالات والتجارة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً أفول نجم الحرس القديم الذي لا يزال ينادي بالثورة على الإمبريالية بدلاً من تنمية حقيقية على أرض الواقع، ستؤتي ثمارها قريباً.