لم ينج أي مجتمع من تأثير الصناعة والتطور التقني، فالموجودات المادية طالما وضعت بصمتها على الأفكار والقيم والمعتقدات وأنماط الحياة. فاختراع المطبعة ساهم في تعميق الفردية، فقبلها كان جمع كبير يلتقي في مكان لقراءة كتاب منسوخ، بل إن ما هو أبسط من اختراعات وابتكارات وتطورات كان له أثره على مسار العيش، إذ أدى التوصل إلى الساندويتش إلى إذكاء الفردية أيضاً، بعد تراجع أيام مائدة الطعام التي تلتقي حولها الأسر والعائلات، وأدى طحن القهوة وانتشار المقاهي في أوروبا إلى توافر مكان يتبادل فيه الناس أطراف الحديث عن أحوالهم العامة، فكانت أحد المسارب إلى الديمقراطية.
قبل هذا وفي ركابه ومعه وبعده تعددت النظريات واختلفت بين الماركسية التي ترى أن الموجودات المادية تشكل «بنية تحتية» هي ما ينتج «بنية فوقية» متمثلة في القيم والأفكار، وبين تصور عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي رأى أن البروتستانتية بجوانبها الروحية والمعنوية أثّرت على الرأسمالية الغربية، أو تلك الرؤية التي تتحدث عن قوة صلبة وناعمة تؤثر كل منهما في الأخرى، وتبدو التكنولوجيا عابرة لهما. وفي كل الأحوال فإن استثمار المعرفة لابد أن ينتج أمراً ما، ولابد للمنتج من مستهلك حتى لو كان استهلاكاً معرفياً، فالتكنولوجيا لم توجد للفراغ، ولا تعمل في فراغ، إنما للإنسان، تجرب فيه وبه ومعه وله.
ولا تنفصل التكنولوجيا عن الأيديولوجيا أو الفلسفة التي تقف وراء مختلف الاختراعات، ومنها فكرة مواجهة الطبيعة والانتصار عليها، أو إيجاد الإنسان الجبار «السوبر مان» حسبما رآه الفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه، أو نزعة الهيمنة والاستعمار التي تتبناها بعض الدول المتقدمة. كما أن التكنولوجيا في إنتاجها مربوطة بصراع أو تنافس معين بين المجتمعات الإنسانية. فالدول المتقدمة صناعياً تعوق الدول النامية حتى لا تمضي على درب التصنيع وامتلاك التقنيات الحديثة، بل تسعى لاستنزاف عقولها ودفع النابهين من أبنائها للهجرة، وتحرص في الوقت نفسه على أن يكون نقل التكنولوجيا إلى العالم الثالث على هيئة «سلعة» وليس «معرفة»، ويساعدها في هذا وكلاؤها من القائمين على فروع الشركات متعددة الجنسيات.
ورغم أن كثيراً من الدول العربية تتمتع بمستوى لا بأس به من توظيف التكنولوجيا على مستوى الأشخاص وشركات الأعمال والحكومات، فإن هذا التوظيف لا يمنع من وجود عدة مشكلات: أننا نستورد التكنولوجيا ولا ننفق بالقدر الكافي على البحث العلمي، ونرهن التقدم التقني بالظرف السياسي، ونفتقد إلى القدرة العسكرية الكافية للدفاع عما نحققه على درب التكنولوجيا، وتغيب لدينا أي فلسفة متماسكة تحكم تصوراتنا وتوجهاتنا في عالم التقنية والاقتصاد الرقمي والمعرفي، فضلا عن تفاوت الدول العربية في إمكانية حيازة التكنولوجيا، وفي الطلب عليها من قبل الشباب.
كان هذا ما أردت قوله ابتداء في المداخلة التي شاركت بها خلال فعاليات «تحالف عاصفة الفكر» الذي أطلقه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بالتعاون مع عدد من مراكز البحوث العربية، وانعقدت دورته السادسة الأسبوع الفائت في مقره بأبوظبي تحت عنوان «المستقبل العربي في عصر التكنولوجيا»، وذلك قبل أن أتحدث عن الآثار الإيجابية للتكنولوجيا مجملا إياها في تسهيل الحياة النوعية للناس، عبر تعاملهم مع الأجهزة الحكومية بما يخفف من التحجر والتوحش البيروقراطي، ومع البنوك وحساباتها، والحصول على المعلومات وتنوعها، والتواصل المتدفق بما يقرب الشعوب في عالم أصبح قرية صغيرة، ويسهم في معرفة الآخر وتفهمه وقبوله، ويدفع التنمية بمساراتها الشاملة، ويحرر الأذهان، ويرفع رغبة الناس في المشاركة السياسية، والوقوف على أنماط عيش الشعوب الأخرى.
كما تحدثت عن الآثار السلبية للتكنولوجيا، ومنها الخواء الروحي في ظل الإغراق في المادية وتشيؤ الإنسان، وتعميق الاغتراب حيث يتواصل الناس عبر شبكات التواصل الاجتماعي مع البعيدين عنهم، وينعزلون عن الأقرب إليهم، إلى جانب شيوع أمراض نفسية مثل الانطواء والانزواء والاكتئاب والأرق وإدمان الإنترنت، وتحول الكماليات إلى ضروريات بما زاد من كلفة المعيشة، فضلا عن تبديد موارد الطاقة سريعاً، وارتفاع معدل استهلاك الأطعمة المعدلة وراثياً، وتعطل القدرات الذهنية للإنسان وتحول عقله إلى مجرد أداة أو وظيفة مثلما هو حال الآلة، واشتداد السجال السياسي والعقائدي والطبقي، وظهور أنماط جديدة من الجرائم وعمليات الإرهاب، وموت حرف تقليدية جميلة، وزيادة حجم البطالة.