تخرج علينا كل بضعة أعوام مجموعة بحثية أو أخرى بدراسة تصنيفية لجماهير الناخبين. ويجري الباحثون آلاف الحوارات، ويحددون هويات المجموعات المختلفة التي ينتمي إليها الناخبون الأميركيون.
وقد أنجزت لتوها مجموعة «مور إن كومون» دراسة تصنيفية كبيرة. ولعلها واحدة من أفضل الدراسات التي قرأتها.
الدراسة التي جاءت بعنوان «الأحزاب الخفية»، تقسم الأميركيين إلى سبع مجموعات، من اليسار إلى اليمين، بأسماء مثل «الليبراليين التقليديين» و«المعتدلين» و«غير المشاركين سياسياً».. إلخ. وليس من المفاجئ أن نعلم أن أكثر المجموعات نشاطاً هي التقدميون من أقصى اليسار (8% من الأميركيين) و«المحافظون المخلصون» في أقصى اليمين (بنسبة 6%). وهاتان المجموعتان هما أغنى الجماعات كافة. وغالبية أعضائهما من البيض، ولديهما أكثر المستويات التعليمية، ومستويات مرتفعة من الأمن الشخصي.
ونعتقد أحياناً أننا في مرحلة «شعبوية»، لكنها ليست الحقيقة، إذ من الملاحظ أن الصراع السياسي في الولايات المتحدة هو عبارة عن حرب أهلية يخوضها الأغنياء البيض المحافظون ضد التقدميين الأثرياء.
لذا يمكن الاستنتاج بأن الحزبية هي ثمرة الثراء، فالأشخاص الذين يعانون من ضغوط مالية شديدة في حياتهم يكونون أقل اهتماماً بالسياسة. ومن المرجّح أن يصف أصحاب الدرجات الجامعية أيديولوجيتهم بأنها محور هوياتهم. ومن المرجح بدرجة كبيرة أن يستمدوا المعنى الأخلاقي من انتمائهم، وأن ينتموا إلى فئة بناء على مسماها، ومن المحتمل بشكل كبير أن يصوتوا على أساس حزبي.
وملاحظتي الثانية من التقرير هي أن الأفكار تصنع التاريخ بالفعل. ويلتف النشطاء التقدميون والمحافظون المخلصون حول الروايات الفلسفية المتسقة. وهذه الروايات ليست مجرد رؤى للمجتمع، وإنما روايات للتهديد، ومن يتعين تطهير المجتمع منهم!
ويرى 90% من المحافظين المخلصين أن الهجرة سيئة، بينما يرى 99% من النشطاء التقدميين أنها جيدة. ويعتبر 76% من المحافظين المخلصين أن الإسلام أكثر عنفاً من الأديان الأخرى، بينما يوافقهم 3% فقط من النشطاء التقدميين. ويرى 86% من المحافظين المخلصين أنه من المهم جداً أن يكون الأطفال منضبطين أكثر من أن يكونوا مبدعين، ولا يتفق معهم سوى 13% فقط من النشطاء التقدميين.
لكن على الجانب الآخر، يتشبث النشطاء التقدميون بوجهة نظر عالمية «قاتمة»، فالأصل أن الناس قد يكونوا طيبين، لكن الهياكل الهرمية في المجتمع مخيفة، ولا بد من تفكيك هياكل الظلم والقمع.
ويعتبر 91% من النشطاء التقدميين أن التحرش الجنسي أمر شائع، بينما يتفق معهم 12% فقط من المحافظين المخلصين. ويرى 92% من النشطاء التقدميين أن الناس لا يتعاملون مع العنصرية بجدية كافية، مقارنة بـ6% فقط من المحافظين المخلصين.
وهذا الاختلاف الفلسفي ليس جديداً، فقد كان هناك دوماً بعض الناس الذين يعتقدون أننا بحاجة إلى هياكل هرمية للحفاظ على أمننا، وآخرون يعتقدون أننا بحاجة إلى التحرر من الهياكل القمعية لكي يمكن أن نصبح أحراراً.
لكن الجديد هو مدى الاستقطاب الذي أصبح عليه هذا الاختلاف. فقد وجه الباحثون مجموعة متنوعة من الأسئلة، حول كل شيء، من تربية الأطفال إلى النشيد الوطني. وفي كثير من الحالات كان ما يتراوح بين 97 و99% من النشطاء التقدميين يقولون شيئاً ويقول 93 إلى 95% من المحافظين المخلصين نقيضه تماماً. ولا يكاد يكون هناك دليل على وجود التفكير الفردي، والموجود فقط هو التوافق الحزبي. وبدأ الوضع الراهن يبدو حقيقة مثل الحروب الدينية التي اجتاحت أوروبا بعد ابتكار الصحافة المطبوعة، عدا أنها الآن ترتدي عباءة سياسية!
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»