تتميز طائفة الاضطرابات المعروفة بالأمراض النفسية أو الاختلالات العقلية (Mental Disorders)، بشمولها لمدى واسع ومتنوع من الاختلالات، تتباين أعراضها وعلاماتها بشكل كبير، وإن كان معظمها يتميز بخليط من الأفكار المضطربة، والمشاعر والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية غير الطبيعية. وربما كان من أشهر الأمثلة على الأمراض العقلية، الشيزوفرينيا، والذهان، والاكتئاب، والإعاقات العقلية، والاضطرابات الناتجة عن إدمان المخدرات والكحوليات، والتوحد، والعته، وغيرها الكثير. وتعتبر الأمراض العقلية من أهم قضايا الصحة العامة والمجتمعية، ومن أكثر الاضطرابات الصحية انتشاراً في دول العالم قاطبة. فعلى سبيل المثال، يُصابُ نحو 300 مليون شخص حول العالم بالاكتئاب، و60 مليون آخرين بالحالة المعروفة بالاضطراب ثنائي القطب (Bipolar disorder)، والذي كان يعرف سابقاً بالاضطراب الهوسي، بالإضافة إلى 23 مليون مصاب بالشيزوفرينا وغيرها من أنواع الذهان، و50 مليون مصاب بدرجة من درجات العته، وعشرات ملايين الإصابات بأنواع وأشكال أخرى من الاضطرابات العقلية. وبإضافة الأرقام السابقة معاً، نجد أن قرابة النصف مليار شخص يعانون من نوع أو آخر من الأمراض النفسية أو الاختلالات العقلية.
وبخلاف المعاناة التي يتحملها المصابون بالأمراض العقلية، ويقع جزء كبير منها على كاهل ذويهم وأسرهم، وبالإضافة إلى العبء المرضى والثمن الاقتصادي الذي ترزح تحته مجتمعاتهم ودولهم، تحصد هذه الطائفة من الأمراض ثمناً باهظا على صعيد الصحة البدنية. حيث يقدر أن المرضى المصابين بالدرجات الشديدة من الأمراض العقلية المختلفة، ينخفض متوسط أو مؤمل أعمارهم بحوالي 10 أو 20 عاماً مقارنةً بمؤمَّل العمر لباقي أفراد المجتمع. وتقع غالبية الوفيات المبكرة تلك بين أفراد هذه المجموعة من المرضى، ليس بسبب مرضهم العقلي، وإنما بسبب أمراض واعتلالات بدنية وجسمانية. حيث تفتقر الغالبية العظمى منهم لمستوى جيد من الرعاية الصحية، على صعيد إجراءات الوقاية وسبل العلاج، سواء لاضطراباتهم العقلية أو لاعتلالاتهم البدنية، وحتى من تتوافر له منهم رعاية صحية، يكون التركيز غالباً على الاضطراب العقلي الشديد، ولا تتمتع حالتهم الصحية البدنية بالقدر الكافي من الاهتمام.
وأمام هذا الوضع، ولرفع الغبن الصحي الذي يتعرض له المصابون باضطرابات عقلية، وللمرة الأولى في التاريخ، أطلقت منظمة الصحة العالمية نهاية الأسبوع الأول من الشهر الجاري، توصيات وإرشادات مبنية على الأدلة العلمية والبراهين، لكيفية إدارة الأمراض الجسمانية للمصابين باضطرابات عقلية شديدة. وغطت هذه التوصيات أمراضاً جسمانية متنوعة ومختلفة، مثل أمراض القلب والشرايين، وداء السكري، ومرض نقص المناعة المكتسب أو الأيدز، والسل بأنواعه، والتهاب الكبد بنوعيه (B & C)، كما شملت التوصيات استخدام منتجات التبغ، وإدمان الكحوليات والمخدرات، ورعاية وعلاج من ينخرطون في إيذاء النفس ومن يعانون من زيادة الوزن والسمنة. وشملت أيضاً التوصيات سبل تغيير السلوك الشخصي أو نمط الحياة، بما في ذلك الاعتماد بشكل أكبر على غذاء صحي متوازن، وزيادة حجم النشاط البدني وممارسة الرياضة، والإقلاع عن التدخين، والدعم الاجتماعي والنفسي، والانتباه إلى احتمال التفاعل أو التعارض بين الأدوية والعقاقير الطبية التي تستخدم لعلاج الاضطراب العقلي وبين تلك التي تستخدم لعلاج المرض البدني.
وتستهدف تلك التوصيات أفراد الطاقم الطبي أيضاً، لغرض استخدامها في توفير خدمات الرعاية الصحية للحالات الشديدة من الاضطرابات العقلية، وعلى جميع مستويات نظام الرعاية الصحية، بما في ذلك منشآت الرعاية الأولية، والمستشفيات والمراكز التخصصية. كما أنه يمكن لواضعي السياسات، ومخططي خدمات الرعاية الصحية على المستويين المحلي والوطني، ومديري برامج الصحة العقلية، أن يستفيدوا جميعاً من تلك التوصيات، والمرضى أيضاً وعائلاتهم.
وتأتي توصيات منظمة الصحة العالمية في وقت لا زالت فيه معظم نظم الرعاية الصحية حول العالم عاجزة عن الاستجابة بالشكل الملائم والكافي للعبء المرضي المصاحب للاضطرابات العقلية. وهو ما يتجسد حالياً في فجوة هائلة في غالبية دول العالم، بين عدد مرضى الاضطرابات العقلية وبين المصادر المتاحة والمتوافرة. لكن بناءً على أن الأمراض العقلية تحمل في طياتها تكلفة اقتصادية ملموسة، تتمثل في انخفاض الإنتاجية أو انعدامها تماماً في بعض الأحيان، حيث كثيراً ما يشكل المرض النفسي سبباً للإعاقة قصيرة المدى أو المزمنة، هذا بالإضافة إلى تكاليف ومصاريف العلاج.. يصبح من السهل إدراك حقيقة أن الاستثمار في مجال الصحة النفسية، على صعيدي الوقاية والعلاج، يمكن له أن يحقق عائداً ملموساً في الجوانب الإنسانية والاقتصادية للمرضى، وللمجتمع برمته.

*كاتب متخصص بالشؤون العلمية والصحية