صدر كتابٌ للمستشرق الألماني «ألفريد روست» مترجَماً إلى اللغة العربية بعنوان «مكتشفات مغاوير يبرود»، وهو كتاب جديرٌ بالاهتمام على صعيد البحث في التراث السوري، وتقديم قراءةٍ أوليةٍ له من موقع التاريخ الحضاري. وفي نصٍّ مكثّفٍ منه نقرأ التالي: «تحتل سوريا مكانةً حضارية فريدة، سكنها الإنسان الأولُ في عصور ما قبل التاريخ ومنذ أكثر من مليون سنة، ومنها انتقل شرقاً إلى آسيا وشمالاً إلى أوروبا. ويبرود، الواقعة شمال دمشق، هي أحد أهم مواطن ذلك الإنسان، الذي عاش في تلك المنطقة الغنية بكل مقومات الحياة، تاركاً لنا دلائل متنوعة على ذلك، كالأسلحة والأدوات الحجرية والمواقد والفضلات، التي اكتُشفت في الملاجئ والمغاور. وقد تراكمت على امتداد عشرات الآلاف من السنين». ويتناول الكتاب تلك المكتشفات ذات القيمة التاريخية العالية المتميزة، لذلك فإننا نقرأ من خلاله قصة حياة أجدادنا الأوائل.
وفي كتاب «روست»، نضع يدنا على عمر الإنسان السوري منذ عصور ما قبل التاريخ، ومنذ أكثر من مليون سنة، وهذا أمرٌ ذو دلالات كثيرة بالنسبة لتاريخ الإنسانية، إذ يعرِّفنا على ظروف نشأة الإنسان الأولى، وعلى العمق التاريخي لهذه البلاد، خصوصاً أن ذلك العمق مقترنٌ بتطورٍ تاريخي حضاري مديدٍ، ويحمل معطياتٍ ونتائج حاسمة على المستوى الإنساني.
يقدم الكتابُ معلومات وأفكاراً تتصل بمكتشفات مغاوير يبرود (وهي كلمة آرامية ورد ذكرها في كتابات الرُقم الفخارية ضمن بلادِ ما بين النهرين)، حيث أشارت هذه الكتابات إلى أن الملك الآشوري «آشور بانيبعل»، الذي حكم الإمبراطورية الآشورية في بلاد ما بين النهرين خلال الفترة بين عامي 668 و 626 ق.م، قد هاجمها في حملته التاسعة التي وجهها إلى الجزيرة العربية وبلاد الأنباط وأدم ومؤاب وعمرين، وصوبة ويبرود.
أصبحت يبرود في العهد الروماني مركزاً عسكرياً لصيانة الأمن في هذه الأنحاء. ويُستدل على ذلك بوجود آثار حصنٍ روماني ما تزال بقاياه ظاهرةً في أحياء يبرود القديمة. كما بُني فيها خلال العصر الآرامي معبدٌ كبيرٌ وفخمٌ لعبادة الشمس، تحول في العصر الروماني إلى عبادة الإله جوبيتر (كبير آلهة الرومان) ودُعي باسم «جوبيتر ملك يبرود»، ثم تحول بعد انتشار المسيحية إلى كنيسة، ولا تزال بعض حجارته تحمل نقوشاً وكتاباتٍ لاتينية تدل على حالته في عهد قياصرة الرومان.
إن ما نقدمه من احتمالات مفتوحة في أحيان كثيرة، قد تُفضي في مرحلة علمية أكثر انفتاحاً وتقدماً، إلى ما يفتح أبواباً كثيرة في البحث العلمي. أما هذا الأخير، فيظل مفتوحاً أمام محاولات بحث جديدة وأكثر عمقاً واقتراباً من الحقائق التاريخية التي نجدها مفتوحة على احتمالات كثيرة، منها السلبي والمغلق أمام إيجاد نتائج جديدة أكثر عمقاً. لذلك فقد يكون موضوعنا هذا فتحاً جديداً ذي نتائج أكثر عمقاً، على صعيد البحث العلمي المرتبط بالدراسات التاريخية والاجتماعية حول الهوية الحضارية للسوريين.
وذلك ما يدعونا إلى ضرورة الاهتمام بدراسة التاريخ الاجتماعي والتاريخ، خصوصاً أن الأوضاع المحلية والعالمية عرفت في السنوات الماضية بحوثاً كثيرة حول «الهوية العربية». ولا شك في أن الاهتمام بالإنسان السوري الأول سيكون ذي نتائج رائدة على صعيد التاريخ الثقافي العربي ككل.