لا يعرف اللبنانيون في العقود الأخيرة رجل دينٍ وقف في المسألة الوطنية اللبنانية بالصلابة التي وقف بها البطريرك مانصرالله بطرس صفير: في موقفه الحازم مع العيش المشترك وإنهاء الحرب الأهلية، وإلى عقد مؤتمر الطائف واشتراع الدستور حفاظاً على لبنان، فإلى الإصرار على خروج الجيش السوري من لبنان، وبيان البطاركة الكاثوليك من بكركي عام 2000 ومصالحة الجبل عام 2001، ونهضة مجموعة قرنة شهوان 2001، ودعم ثورة الأرز وجبهة 14 آذار إثر استشهاد رفيق الحريري عام 2005، ووثيقة المجمع البطريركي (الكنيسة والسياسة) عام 2005.
في عام 1919 كانت المفاوضات تجري في باريس بين المنتصرين في الحرب العالمية الأُولى على أمورٍ كثيرةٍ لعالم ما بعد الحرب، ومنها صورة لبنان المسيحي الصغير أو لبنان الكبير الذي يعيش فيه المسيحيون والمسلمون، قال البطريرك الحويك: بل لبنان الكبير الذي يعرفه المسيحيون والمسلمون، لذلك قيل عن البطريرك والبطريركية: مجد لبنان أُعطيَ له!
وفي أوقات الرخاء وأزمنته تظل البطريركية المارونية على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع وترعى الجميع، أما في أزمنة الشدة حيث تتصاعد الخصوصيات، فإنّ البطريركية وببصيرةٍ نافذةٍ وشجاعةٍ لا تعرف التردد، تكون مع صورة وواقع لبنان الكبير. لذا وفي عام 1957-1958 وقد كانت النُخَب السياسية المسيحية في معظمها تقف مع الرئيس كميل شمعون، كان البطريرك المعوشي ضد التجديد أو التمديد للرئيس القوي كاسح الشعبية بين المسيحيين، لأنّ «لبنان يبقى بالتوازن لا بالغلبة من جانب هذا الطرف أو ذاك». لذا سمّى المسلمون آنذاك البطريرك: محمد المعوشي، وصاروا إلى وضع صورته إلى جانب صورة الرئيس جمال عبد الناصر!
وفي أواسط الثمانينيات وقد تسلَّم صفير سُدّة البطريركية، وتبادل الزيارات مع المفتي الشيخ حسن خالد، جمعنا المفتي وقال: «أنا واثقٌ من ثلاثة أمور: أنّ البطريرك صفير مؤمن بلبنان وبالعيش المشترك، ويريد الخروج من النزاع الداخلي والحرب الأهلية، ولا يرى بديلاً عن الاستقلال الوطني، وهذه القناعة يشاركني فيها الشيخ محمد مهدي شمس الدين». وتبعاً لهذه القناعة تشارك المفتي مع البطريرك في الاجتماعات مع اللجنة العربية المشكلة لحلّ النزاع، وذهبا إلى الكويت للغرض نفسه. وعلى طريق تلك المساعي سقط المفتي الشيخ حسن خالد شهيداً عام 1989، والذي تحضر ذكرى استشهاده في هذه الأيام. البطريرك صفير قال لي عام 1993 في تذكُّرٍ لشهادة المفتي حسن خالد: رحمه الله، لقد تركني وحيداً في ظروفٍ قاسيةٍ، صارت اليوم أقسى! وكان يقصد أنّ كثرةً من المسيحيين وقفت مع الجنرال عون الذي عارض ذهاب النواب إلى الطائف عام 1989، كما عارض انتخاب رئيسٍ غيره بعد الطائف. بينما وقف البطريرك شامخاً في وجه الغوغاء التي هاجمته في بكركي لإرغامه على دعم حرب الجنرال على الجميع. لقد اتصل البطريرك بالجميع، واجتمع إلى كل الذين قصدوه من المسيحيين والمسلمين، وحثّهم على الذهاب إلى الطائف لإنهاء النزاع، ووضع الأُسس للبنان الجديد بالدستور الذي رأى أنه يحفظ وحدة البلاد واستقرارها وتوازُنَها. وعندما قابلتُه مع أصدقاء عام 1993 كان غاضباً وحزيناً لحلّ القوات اللبنانية واعتقال الدكتور جعجع واضطراره إلى تأييد المقاطعة المسيحية للانتخابات عام 1992، وقال: ما كان دستور الطائف اتفاق غَلَبة وإخضاع كما قال الجنرال عون للمسيحيين، وإنما الآن والجنرال عون والرئيس الجميّل في المنفى، والدكتور جعجع في السجن، وممثلو المسيحيين في مجلسي النواب والوزراء قوتهم التمثيلية ضعيفة.. «كيف تريدون أن لا يخامر المسيحيين الإحساس بأنهم مغلوبون؟! لا أُريد أن يتسلل إلى المسلمين الإحساس بأنهم غالبون، فاللبنانيون جميعاً مغلوبون، والمنتصرون معروفون، ومهمة الرئيس رفيق الحريري في بناء لبنان القوي والمستقل وسط هذه الأحاسيس والوقائع، بالغة الصعوبة. بكركي لا تمارس دوراً سياسياً، بل دورها وطني. وسنظل نعمل من أجل التوازن والقرار الوطني الحر». وهو الأمر الذي وفى البطريرك به وله عبر بيان البطاركة عام 2000، ومصالحة الجبل عام 2001، وتجمع قرنة شهوان عام (2001)، ودعم ثورة الأرز عام 2005، والمجمع البطريركي الماروني عام 2006.
قبل أيام انتشرت شائعاتٌ بأنّ البطريرك السابق صفير قد توفي، وهو الذي اعتزل المنصب منذ عام 2011. لقد روّعت الشائعة اللبنانيين مسلمين ومسيحيين، ثم تبين سريعاً أنها غير صحيحة. البطريركية المارونية في لبنان وجودٌ وشهودٌ وحضور. وهي معالم تكاملت في عهد صفير بالمنصب. لذلك يقدر كل الوطنيين اللبنانيين شهوده وشهادته، كما قدروا ويقدرون شهود وشهادة المفتي حسن خالد.