كأن التاريخ يتكرر هذه المرة بين لبنان والعراق بطريقة وظروفٍ مماثلة، والمسألة المشتركة الجامعة بالنأي بالنفس بين الأميركي الإيراني الراهن.
رئيس الجمهورية اللبنانية السابق، ميشيل سليمان، وبعد اندلاع الحرب بين الثورة السورية والنظام الأسدي، دعا إلى اجتماعٍ في القصر الجمهوري ضمَّ مُختلف المكونات اللبنانية (ومنها حزب الله) ليصدرَ بعدها بيانٌ إجماعي تحت عنوان، «إعلان بعبدا»، يدعو الجميع إلى التزام عدم التدخل في الصراعات الخارجية وخصوصاً العربية وبالأخص السورية.
وافق حزب إيران معلناً أنه يؤيد هذه الخطوة، لكن بعدما استدعى خامنئي حسن نصرالله إلى طهران وطلب منه التدخل العسكري الميليشياوي لإنقاذ الأسد الذي كان على شفير السقوط. لبى الوكيل الفتوى الملالية، وساق الآلاف من الشباب اللبناني إلى سوريا بزعم شعار مذهبي «حماية مقام السيدة زينب»، لحس الحزب توقيعه عن الإعلان من دون أي تبرير كعادته، وهكذا ألغيت مفاعيل الاجتماع.
وبعد احتدام الصراع الأميركي الإيراني في العراق خاف المسؤولون في ذلك البلد أن يدفعوا ثمن ضريبة هذه الحرب وتتحول ساحته إلى تبادل رسائل بين المتصارعين. على هذا الأساس عُقد اجتماع بدعوى من رئيس الجمهورية العراقية برهم صالح، في مقر الرئاسة ضمّ مختلف المكونات السياسية حيث برزت تناقضات واختلافات بين السياديين (ممثلي مقتدى الصدر وسواه) وبين المرتهنين بإيران (الحشد الشعبي ووزير الحكومة السابق نوري المالكي) إضافةً إلى رئيسي البرلمان والوزراء.
ويبدو وبرغم كل شيء أن الكفة مالت إلى الاستقلاليين برغم إطلاق صاروخي كاتيوشا على المنطقة الخضراء بالتزامن من عقد الاجتماع بالقرب من السفارة الأميركية في العراق: تهديد مباشر لكل من تسوّل له نفسه تحييد البلد العربي، أو الخروج على الوصاية الإيرانية. لكن الصاروخين لم يؤثرا على معظم المجتمعين وغلب موقف النأي بالنفس لزجّ العراق في معارك إيران. بل أكثر: أعلن رئيس الوزراء أن العراق يحاول القيام بوساطة بين المتصارعين، أي ليس كطرفٍ بل كحامل رسائل، أي نوع من الإفلات من القبضة الفارسية. وهذا ما توصل إليه المجتمعون في قصر بعبدا في لبنان بالإجماع، لكنه لم ينفع.
السؤال هل سيلتزم عملاء إيران من السياسيين والميليشيات الاتفاق؟
بل أكثر فللإيرانيون نوابهم في البرلمان ووزراءهم في الحكومة. فهل سيعزز ذلك النأي بالنفس أم يضع حداً له؟ والميليشيات الملالية في العراق لا يبدو أنها تمتثل لقرارات الحكومة ولا لإرادة السياديين ويمكن أن تنفلت من عقالها وتورط البلد في ذلك الصراع.
فسلاح «الحشد الشعبي» مرتبط بالحرس الثوري و«فيلق القدس»، ومن المستحيل ألا يأتمر بهؤلاء وكما قيل: «الشيطان يكمن في التفاصيل»، والتفاصيل هنا، قوة إيران العسكرية والسياسية في العراق، ومن الصعب قبول موقف رئيس الوزراء.
لكن مقتدى الصدر- التفافاً على كل احتمال لخرق النأي بالنفس- نظّم مظاهرة مليونية تُطالب باتخاذ موقف حيادي من الأزمة الراهنة بين أميركا وإيران. إنه موقف شعبي وسياسي تحذيري. وكأن مصير «إعلان بعبدا» وخرقه من حزب إيران ماثلٌ أمام الزعيم الشيعي السيادي.
فإذا كان «الحزب الإلهي» في لبنان لم يجد في طائفته ولا في حلفائه ولا في خصومه من يردعه عن الذهاب إلى سوريا، فإن العراق متقدم عليه بشعبه ومؤسساته الرسمية وأحزابه. فالتطوع الذي جُوّز في اجتماع بُرهم تؤكده الجموع الشعبية لتظهر أن هذه الإرادة مضافة إلى القرار السياسي ومحصنة له.
فالعراقيون متعبون من حروب الآخرين على بلدهم ولن يسمحوا لأن تتكرر لعبة تهشيم الدولة والاقتصاد وانقسام الجيش والحرب الأهلية.
كل هذا صحيح وذلك يذكر بأكثرية اللبنانيين الذين عارضوا انخراط الحزب في حربه ضد الشعب السوري، لكن هل سيؤكد الشعب العراقي أكثر فأكثر حياده ونأيه بالنفس أم أن العملاء، وإن قلةً سينجحون في جعل الساحة العراقية مسرحاً دموياً لا يخدم سوى إيران.