نعيش وتعيش معنا الكثير من المفاهيم المغلوطة التي تعطل تنوير العقل المجتمعي وتوقف مسيرته نحو ثقافة حقيقية واقعية، تجعل من العقل طاقة تجدد فكري ومعرفي وقيمي، وتجعلنا كمجتمع نتدفق في اتجاه الحضارة البشرية الجامعة، وتصبح ثقافتنا معادلة ذات وزن كبير في معادلات الثقافة الإنسانية، وليس مجرد مجتمع مستهلك للمعرفة والعلم، ولذلك كي نستطيع أن نحقق ذلك الجزء التشاركي في المعادلة، لابد وأن نتخلى عن ثقافة النقل وننتقل إلى ثقافة النقد.

النقد ذلك هو واحد من تلك المفاهيم المغلوطة التي تترسخ في وجداننا، فالنقد كمفهوم مجتمعي هو أن توجه سهام السلبيات تجاه الآخر سواء كان هذا الآخر فكرة أو شخص أو أي كيان خارج حدود الذات، لكن النقد حقيقة هو فعل أعمق من تلك الرؤية المسطحة التي ترسخت في أذهان غالبية المجتمع. فالنقد هو التعبير عن الرؤية الذاتية حول فكرة ما، أو شخص ما، أو أي موجود في الحياة. تعبير ينتج من تحليل ورؤية للإيجابيات والسلبيات معاً، والحركة الفكرية التي أنتجت الفكر أو السلوك وتأثير المحيط في هذا المنتج الفكري وإجراء تفاعل بناء مع تلك الرؤى النقدية من خلال الحوار الفكري الذي حتما ينتج لنا فكراً أكثر فاعلية وإيجابية، ويحولنا جميعاً إلى شركاء في صنع الأفكار والرؤى التي تنعكس إيجابياً على الحالة الإبداعية والخلاقة للأفراد والمجتمعات، وهذا يقودنا إلى بناء العقل الناقد.
إن آفة بعض المجتمعات هي إسكات صوت العقل الناقد كلما أطل برأسه من عقل طفل يمارس فطرته، فنحن إنْ أردنا أن نرى الأسئلة الفطرية الوجودية التي تتشكل مع الإنسان، دعونا ننظر للطفل وهو يطلق أسئلته التي نضحك عليها، وذلك لأننا لا ندرك قيمتها وعمقها. من منكم لم يسأله طفل صغير (كيف جئت للحياة) أو (الله ما شكله وأين هو) والكثير من تلك الأسئلة الوجودية التي نجد جل الآباء ينهرون أبناءهم أو يسخرون منهم عند طرحها فيطلقون السهم الأول على العقل الناقد الذي هو العقل الفطري من وجهة نظري، ثم تتوالى السهام قاسية على ذلك العقل الغض في مرحلة تكوينه حتى يصل به الخوف لدرجة التقوقع في ركن مظلم من زوايا المخ ويتلحف بالصمت والخوف، وحين يصبح الطفل شاباً يتحول إلى جزء من منظومة نقلية تتلاشى فيها جدلية البحث وراء الخروج من صندوق النمطية الفكرية، وتموت فينا الدفعة الفلسفية لبناء الثقافة والمعرفة.
سؤال أطرحه في نهاية المقال ولي فيه كلام آخر: (متى نعيد للفلسفة مكانتها في بناء العقل ونعيدها لمناهجنا التعليمية؟)، الفلسفة واحدة من أهم المفاهيم المغلوطة في العقل الجمعي للمجتمع ولنا في هذا الأمر كلام آخر.
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي