في عام 1975 جرى التوقيع في هلنسكي عاصمة فنلندا على أهم وثيقة دولية في القرن العشرين. وقّع على الوثيقة الرئيسان الأميركي جيرالد فورد، والرئيس السوفييتي «ليونيد برجنيف»، إلى جانب رؤساء 35 دولة أخرى من أوروبا، وآسيا وكندا.
نصّت الوثيقة على أمرين أساسيين ومتكاملتين:-
ينصّ الأمر الأول على تثبيت نتائج قمة يالطة 1945 بين الرؤساء جوزف ستالين وفرانكلين روزفلت وونستون تشرشل حول تقاسم النفوذ في العالم، بما في ذلك تقسيم أوروبا إلى قسم شرقي تحت الهيمنة السوفييتية، وقسم غربي تحت مظلة حلف شمال الأطلسي.
وبالمقابل، نصّ الأمر الثاني على مجموعة من القضايا الإنسانية، منها الالتزام باحترام الحريات العامة، وحقوق الإنسان وفق وثيقة 1948. وإذا كان الأمر الأول يكرس انتصاراً سوفييتياً، فان الأمر الثاني يكرّس انتصاراً أميركياً - أوروبياً.
في ذلك الوقت احتفل العالم بدخول العلاقات الدولية مرحلة جديدة تطوي ليس فقط صفحة الحرب العالمية الثانية بما أسفرت عنه من قتل الملايين ومن خراب ودمار، ولكنها تفتح في الوقت ذاته صفحة جديدة في العلاقات بين الدول قائمة على الالتزام باحترام الجغرافيا السياسية التي قامت بعد الحرب، مقابل الالتزام باحترام حقوق الإنسان.
هذه الوثيقة سقطت اليوم بوجهيها. فالرئيسان الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين لا يؤمنان بوحدة أوروبا، ولا يكترثان لها، بل لعلهما يعملان كل من موقعه، وعلى طريقته، وكل لأهدافه، على ضرب هذه الوحدة. حتى أن حلف شمال الأطلسي الذي يشكل العمود الفقري لوحدة أوروبا ولتفاهمها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، لم يعد أولوية أميركية، بل إن الرئيس ترامب يتعامل علناً مع الحلف وكأنه أصبح عبئاً لا يطاق على الولايات المتحدة؛ ولذلك دعا الرئيس الفرنسي ماكرون، وأيّدته المستشارة الألمانية ميركل، إلى الاعتماد على قوة أوروبية ذاتية مستقلة عن الولايات المتحدة.
ويلاقي الرئيس بوتين هذا الموقف الأميركي في منتصف الطريق ولو من غير تنسيق. فالرئيس الروسي يتطلع إلى أن يرى الحلف منهاراً.. وصفحة مطوية من سجلّ التاريخ خاصة بعد أن توسع «الأطلسي» شرقاً خلافاً لمعاهدة يالطة، وحتى خلافاً لوثيقة هلنسكي، حتى وصل إلى الحدود الروسية. وربما من التطورات التي قد تصب في مصلحة روسيا أن ترى عقد الاتحاد الأوروبي منفرطاً من خلا حركات شعبوية انفجرت في العديد من دول الاتحاد كردّ فعل على تراجع القرار الوطني في مقابل تقدم القرار الجماعي الذي يصدر عن عاصمة الاتحاد في بروكسل !
أدي هذا التلاقي غير المباشر، وغير المنسق بين الرئيسين ترامب وبوتين إلى أمرين أجهزا على وثيقة هلنسكي ببعديْها السياسي والأخلاقي الإنساني معاً. فمن جهة أولى إذا كان توسيع حلف شمال الأطلسي شرقاً (والذي وصل فعلاً إلى بولندا والمجر وحتى إلى دول البلطيق الثلاثة المجاورة للاتحاد الروسي) يشكل انتهاكاً للوثيقة، فإن العملية العسكرية التي قام بها الاتحاد الروسي في شرق أوكرانيا وضمّ شبه جزيرة القرم، أو استعادتها إلى روسيا، يشكل انتهاكاً للوثيقة أيضاً.
ومن جهة ثانية، فان الالتزام باحترام حقوق الإنسان والحريات العامة، تراجع في معظم الدول الأوروبية ذاتها. وهذا التراجع الذي وصل في بعض دول أوروبا الشرقية إلى حدّ السقوط المريع الذي لا يقتصر على دولة دون أخرى، بل لعله أصبح ظاهرة عامة تحت مظلة الشعبوية المتطرفة الرافضة للآخر المختلف. وتعيد هذه الظاهرة إلى الأذهان أدبيات النازية والفاشية التي عانت أوروبا من ويلاتها والتي كانت الفتيل الذي أضرم نار الحرب العالمية الثانية.
ولعل من أخطر هذه النتائج، التهديدات المتبادلة بين موسكو وواشنطن بعد السقوط الواقعي لمعاهدة الحدّ من إنتاج ونشر الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى والانسحاب المنفرد للولايات المتحدة منها.. والعودة ثانية إلى التهديد المتبادل بما يعرف ب«حرب النجوم».
في 1975، وفي ضوء معاهدة هلنسكي، ساد الاعتقاد بأن أوروبا دخلت مرحلة جديدة في تاريخها الحديث، وهي مرحلة تتميز أولاً بتكريس الخريطة السياسية لما بعد الحرب العالمية الثانية، كما تتميز ثانياً برفع قواعد حقوق الإنسان وكرامته والالتزام بها.
ولكن أوروبا اليوم تشعر بأن الأمرين سقطا معاً، أو على وشك السقوط.. وأنها من أجل ذلك تقف أمام مرحلة جديدة قد تعيدها عقوداً إلى الماضي المريع.