في تقرير هو الأول من نوعه، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن جزيئات البلاستيك، كبيرة الحجم، وغالبية الجزيئات صغيرة الحجم، لا تشكل خطراً صحياً، كونها تمر خلال الجسم عبر الجهاز الهضمي دون أن يتم امتصاصها. وإنْ كانت المنظمة الدولية قد أشارت إلى أن خلاصة هذا التقرير، بنيت على «معلومات محدودة»، مطالبة بالمزيد من الدراسات والأبحاث في هذه القضية. ويأتي هذا التقرير في أعقاب صدور تحقيق صحفي عن إحدى المنظمات (Orb Media) المتخصصة في مجال التحقيقات الصحفية، أظهر احتواء العديد من زجاجات المياه المعبأة التي تحمل العلامات التجارية لشركات عالمية مشهورة، على جزيئات دقيقة من البلاستيك (Microplastic)، ما أثار القلق لدى الكثيرين من احتمالات أن يكون لذلك تبعات وآثار صحية سلبية.
ولفهم كيف وصلت تلك الجزيئات إلى مياه الشرب، بحيث أصبحت تشكل مصدر قلق صحي، لا بد أن نسترجع طبيعة العلاقة بين مادة البلاستيك وبين أفراد الجنس البشري، خصوصاً منذ بداية عقد الخمسينات، عندما أصبحت هذه المادة التي وصفت حينها بالمادة المعجزة، واسعة الانتشار والاستخدام اليومي. وتتضح قوة هذه العلاقة من حقيقة تقدير العلماء بأن وزن ما تم إنتاجه من البلاستيك خلال العقود الست الماضية، يزيد على 8 مليارات طن، وهو رقم يعادل وزن مليار فيل ضخم، أو 25 ألف مرة وزن ناطحة السحاب الشهيرة «إمباير ستات» في مدينة نيويورك. وبالنظر إلى أن البلاستيك ليس من المواد الثقيلة الوزن، يمكننا أن نتخيل الحجم الذي ينتج عن مليارات الأطنان تلك.
وتكمن المشكلة في أن خصائص مادة البلاستيك، والتي جعلتها مادة مرغوبة وواسعة الاستخدام، وبالتحديد عدم قدرة الكائنات الدقيقة من بكتيريا وفطريات وطفيليات وديدان على التغذي منها، وهي العملية المعروفة بالتحلل الطبيعي الذي تتعرض له بقية المواد الطبيعية المنشأ، تجعلها قادرة على الصمود لعقود، وأحياناً حتى في تقدير البعض لأكثر من قرن. وحتى العوامل الطبيعية الفيزيائية مثل أشعة الشمس أو درجات الحرارة المرتفعة في الصحارى أو درجات الحرارة المنخفضة كما في القطبين، لا يمكنها أن تتسبب في تحلل البلاستيك، وجل ما تستطيعه هذه العوامل هو تكسير وتجزئة البلاستيك إلى جزيئات صغيرة، كما تتكسر الصخور الجامدة لتتحول إلى ذرات رمال وتراب تحملها الرياح لأقاصي الأرض.
والغريب، وكما جاء في دراسة صدرت عن جامعة كاليفورنيا -سانتا بربرا في يوليو عام 2017، تم إنتاج نصف الثمانية مليار طن من البلاستيك في الثلاثة عشر عاماً الماضية فقط، أي أن الإنتاج العالمي من البلاستيك خلال العقد الأخير، عادل في الوزن، الإنتاج العالمي للعقود الست التي سبقته، ما يشكل زيادة هائلة بكل المقاييس، تهدد بتحول كوكب الأرض المعروف حالياً بالكوكب الأزرق إلى «الكوكب البلاستيكي» (Plastic Planet)، خصوصاً إذا ما وضعنا في الاعتبار التقديرات التي تشير إلى أن حجم الإنتاج العالمي من البلاستيك، بحلول عام 2050، سيصل إلى 12 مليون طن، أي مرة ونصف مقدار الوضع الحالي.
ومما يزيد الطين بلة أن 30 في المئة فقط مما يتم إنتاجه من البلاستيك يستخدم لفترات طويلة، أي لسنوات وعقود، بينما تجد الغالبية العظمى، أي نحو 70 في المئة، طريقها إلى النفايات ومكبات القمامة، لأن معظمها يستخدم لفترات قصيرة، وأحياناً لمرة واحدة فقط. ووفقاً للدراسة ذاتها سابقة الذكر، فإنه يتم التخلص من 12 في المئة من نفايات البلاستيك عن طريق الحرق، ما يتسبب في انبعاثات غازية سامة ومسرطنة، ويتم دفن 79 في المئة في مكبات النفايات الأرضية، بينما تتباين نسب إعادة التدوير أو الاستخدام، من 9 في المئة في الولايات المتحدة إلى 25 في المئة في الصين، و30 في المئة في الدول الأوروبية، وبمتوسط عالمي لا يزيد على 9 في المئة.
وغني عن الذكر هنا، أن النفايات البلاستيكية، سواء تركت في العراء أو تم دفنها، تتكسر بمرور الوقت -دون أن تتحلل- إلى جزيئات متباينة الحجم، بعضها يمكن رؤيته بالعين المجردة، بينما جزء لا يستهان به يتحول إلى جزيئات مجهرية. وبمرور الوقت أيضاً تجد هذه الجزيئات، وعلى الخصوص متناهية الصغر منها، طريقها إلى المسطحات المائية، سواء أكانت بحاراً أم محيطات أم بحيرات وأنهاراً تستخدم مياهها لتوفير مياه الشرب لأفراد الجنس البشري. بعض هذه المياه تتم تعبئته من جانب شركات عالمية كبرى في عبوات شفافة نظيفة كما تبدو للعين المجردة، وإنْ كانت في الحقيقة تحتوي على جزيئات بلاستيك، لا يعرف عددها بالضبط، أو حتى تأثيراتها الصحية بعيدة المدى حتى الآن.