يتألف المجتمع اليهودي في إسرائيل من مجتمعيْن مختلفيْن. يتألف الأول من اليهود المدنيين العاديين، وهم أكثرية مشتتة سياسياً، ومنقسمة على عدة أحزاب متصارعة كما أظهرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ويتألف الثاني من اليهود المتشددين (الأرثوذكس) وهم أقلية متماسكة وموحدة. ولكنها تتمتع بامتيازات ثلاثة: الإعفاء من الخدمة العسكرية، والتفرغ لدراسة التوراة، وإنجاب أسر كبيرة، والاعتماد كلياً على التعويضات التي تقدمها الدولة لهم لتغطية تكاليف المعيشة من سكن وتعليم وكساء وطعام.
ولدى كل انتخابات برلمانية، ترتفع صيحات المجتمع -الأول- المدني: إلى متى نتحمّل أعباء تغطية تكاليف هؤلاء؟
ولكن «هؤلاء» يشكلون في تماسكهم قوة انتخابية توفر أرجحية للقوة السياسية التي تتضامن معها. وهو ما يفعله بنيامين نتنياهو في كل انتخابات، وهو ما فعله أيضاً في الانتخابات الأخيرة. ولكن ذلك لا يتم من دون ثمن. والثمن هو مزيد من التطرف الديني، ومزيد من التشدد ضد الفلسطينيين، ومزيد من التسامح السياسي مع هذا التشدد.
يتمثل التطرف الديني في وقف كل أنواع الحركة أيام السبت، بما في ذلك توقف السيارات والقطارات. وحتى المصاعد في الأبنية تتوقف عن الحركة. ثم إنه لا يُعقد زواج، ولا تثبَّت وفاة إلا عن طريق المرجعية الدينية التي تترأس هذه الجماعة. ونظراً لما تتمتع به من تأثير، فإن أحداً لا يجرؤ على انتقاد الأعمال التي تقوم بها باسم الدين-كما كانت تفعل «داعش»- باقتحام الحرم القدسي أحياناً، والحرم الإبراهيمي أحياناً أخرى، ومخيمات وقرى الفلسطينيين في كل حين. أدى الجمع بين الامتيازات الاستثنائية التي يتمتع بها اليهود الأرثوذكس (المتشددون) إلى رد فعل سلبي من اليهود الآخرين الذين يرددون عبارة مثل:«نحن نعمل وهم ينجبون.. نحن ندفع وهم يتكاثرون».
أدى هذا الواقع إلى تشجيع هجرة اليهود المتشددين من الولايات المتحدة إلى إسرائيل. وهم الذين يتصرفون في الضفة الغربية وكأنها «الغرب الأميركي».. وكأن الفلسطينيين هم الهنود الحمر!
وكُرست هذه الإلغائية في القانون الذي أقرّه الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) بتاريخ 19 يوليو 2018. والذي نص على حصرية يهودية الدولة. ما كان لهذا التحول من «الديمقراطية» إلى العنصرية أن يتحقق لولا تضخم حجم ونفوذ الجماعات اليهودية الأرثوذكسية المتشددة، وكذلك لولا عمليات استرضائها لمصالح حزبية وانتخابية على النحو الذي مارسه - ويمارسه- رئيس الحكومة نتنياهو.
في الأساس قامت الحركة الصهيونية على خلفية ثقافة المظلومية، ذلك أن اليهود منذ أن أُخرجوا مع المسلمين من الأندلس وهم يتعرضون للاضطهاد في كل أرجاء أوروبا، من روسيا شرقاً حتى فرنسا وبريطانيا غرباً. ولكن إسرائيل بسلوكها المتأثر باليهود الأرثودكس استحدثت ثقافة جديدة لها، وهي ثقافة «الأبرتايد» التي سادت في جنوب أفريقيا، ثم انتهت مع أصحابها من العنصريين البيض.
وتلقى هذه الثقافة معارضة شديدة حتى من اليهود الأميركيين بصورة خاصة. وقد قامت منظمة يهودية أميركية مناهضة لسياسة إسرائيل، وذلك للمرة الأولى منذ عام 1948.
وتحدث عن معاني هذه الظاهرة كاتب يهودي إسرائيلي – أميركي يدعى دانيال كورديس في كتاب له عنوانه «نقف منقسمين»، مشيراً إلى عمق الانقسام الثقافي – العقدي – بين يهود أميركا ويهود إسرائيل المتشددين.
ومن مظاهر ذلك أن وزير المواصلات في حكومة نتنياهو - وهو واحد من اليهود الأرثوذكس- يدعو إلى إعادة النظر في قانون العقوبات الإسرائيلي لتطبيق الشريعة التوراتية. ويتساءل: وإلا فما معنى يهودية إسرائيل؟.
توصل إحصاء جرى في إسرائيل مؤخراً إلى أن 80 بالمئة من الإسرائيليين يطالبون بالزواج المدني (والزواج المدني ممنوع ومحرّم في إسرائيل). كما يطالبون بإطلاق حرية العمل والتصرف يوم السبت. وبين ما يطالب به هؤلاء (80 بالمئة) وما يتمسك به اليهود الأرثوذكس (مشروع وزير المواصلات) بون شاسع.
حتى المدارس العلمانية -أي غير الدينية- تخصص تسع ساعات في الأسبوع للتعليم الديني. ومادة التعليم الديني أساسية في منهاج التعليم وليست اختيارية. وإذا حضر تلميذ (وليس تلميذة) إلى المدرسة ببنطلون قصير (شورت) فإنه يتعرض للانتقاد الشديد، وغالباً ما يُمنع من دخول الصف ويعاد إلى بيته.
لقد تحولت إسرائيل من العلمانية إلى التدين.. فإلى التشدد الديني. وهو تحوّل بدأ انتهازياً سياسياً، إلا أنه يعيد الآن صياغة المجتمع الإسرائيلي من جديد على قاعدة حصرية المواطنة باليهود.. وباليهود المتشددين.