في تقريرها الصادر عن حالة الإرهاب في العالم استخدمت وزارة الخارجية الأميركية تعبيراً مثيراً يستلفت النظر إلى مآلات العالم المعولم المعاصر. يقول التقرير إن «الايديولوجيات السامة»، باتت نواة الحركات الإرهابية، ومن ورائها أضحى العالم فاقداً للأمان، لا سيما بعد أن بلغنا مرحلة الهويات القاتلة، وأضحينا في زمن غرق الحضارات، إذا جاز لنا أن نستعير تعبير الكاتب الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف.
تعرف القواميس المختلفة كلمة أيديولوجيا أنها مجال علم الأفكار، ويُشار دوماً إلى انساق معينة من المعتقدات والمفاهيم بأنها أيديولوجيات، غير أن دروس تاريخ الماضي القريب، لا سيما النصف الأول من القرن العشرين تخبرنا أن تحت جلد كل أيديولوجي يسكن إرهابي، لا سيما إذا تمازجت الأيديولوجيا، مع بعض المسحة العقدية أو الدوجمائية كما يطلق عليها.
في ثلاثينيات القرن الماضي لم تكن الأصولية الإسلاموية لا الإسلامية أي التي تتذرع بالإسلام زوراً قد ظهرت على السطح، غير أنه من المثير جداً وقتها كان حضور حركة عرفت باسم «المسيحية الإيجابية»، وهي التي لا علاقة لها في واقع الأمر من قريب أو بعيد بالمسيحية، بل كانت تسخيراً سياسياً لأفكار عنصرية تسعى إلى مجتمع مسيحي خالص من الأجانب أي من غير الألمان، وكل من هو خارج عن الجنس الآري كما كان يحلو لمؤسس الرايخ الثالث «أودلف هتلر» أن يطلق عليه. غني عن القول الكوارث التي أسفر عنها هذا التيار على الصعيد العالمي، فقبل سبعة عقود، لقى سبعون مليون شخص حتفهم غير الجرحى والخسائر الاقتصادية، جراء أفكار عنصرية حملها هذا التيار.
الأيديولوجيات السامة في واقع الأمر أضحت اليوم، وفي زمن وسائط التواصل الاجتماعي لها أجنحة تطير بها حول العالم بسرعة البرق، وربما تعيد التذكير بقدرات الجن الذي كان يسخره سليمان الحكيم للحصول على المعرفة في زمانه، وقد تتجاوزها مع ما يخلفه ذلك على عالمنا من قلق في النهار وارق في الليل.
يتوقف تقرير الخارجية الأميركية عند «داعش» في بداية الأمر بوصفها عاملاً مؤكداً من عوامل تحفيز الايديولوجيات السامة عربياً وعالمياً، وكلاهما ينطلق من آراء موصولة بفكر أيديولوجي منحول يتوهم بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة.
ولعله بشيء من التفصيل، فان هناك قوى تسعى إلى بث أفكارها المسمومة، وتتلاعب على أوتار الطائفية والمذهبية، من أجل تعميق الشروخ في جدران الأنسجة الاجتماعية للشعوب، وتؤدي إلى توتير المجتمعات كما حدث باليمن، والعراق ولبنان وسوريا، ومحاولاتها الأمر عينه في فلسطين.
ويمكن للمرء الحديث عن «داعش»، ذاك التنظيم الدموي الذي عرفه عالمنا العربي في السنوات الأخيرة، والذي ربما لا يضارعه في دمويته سوى تنظيم الحشاشين لصاحبه حسن الصباح في القرن الثاني عشر الميلادي في بلاد الشام.
ولعل السؤال الذي يطرحه البعض:(هل يأتي اغتيال زعيم التنظيم أبوبكر البغدادي لينهي وجود «داعش»)؟ بالقطع لا، فقد بات التنظيم بالفعل فكرة أيديولوجية، ونشاز دوجمائي مغلوط، يسابق الرياح، ومع اختيار خليفة جديد، وأموال طائلة تحت تصرف الجماعة الإرهابية، فإنه من الطبيعي أن يعاود الانتشار، وربما ينتقل إلى بقاع وأصقاع تعرف طريق الانفلات الأمني، كما الحال مع أفريقيا وبعض دولها.
كارثة تنظيم «داعش» أنه يروّج لأفكار سامة لا تلبث أن تتحول إلى عمليات إرهابية تحرم العالم من آمال الاستقرار والاستمرار في طريق التنمية، ورفع مستوى حياة الأمم أو ترقي الشعوب.
على أن الجزئية الأخطر التي أشار إليها «ناثان سيلز»، منسق جهود مكافحة الإرهاب الذي يعد مكتبه التقرير بتفويض من الكونجرس يلفت إلى أن هناك «أيديولوجيات» سامة أخرى غير «داعش»، وتتمثل في الجماعات اليمينية التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض، ويشير إلى أن المتعصبين بينهم ووسط غيرهم من المنظمات أو الشبكات ذات الدوافع العنصرية يتواصلون عبر الحدود الدولية، والطامة الكبرى أنهم باتوا يتعلمون من أسلافهم المتطرفين، من حيث قدرتهم على جمع الأموال وتحريكها أو قدرتهم على التجنيد وتسخير عناصر بشرية للسعي في دروب الظلام.
في هذا الإطار الأيديولوجي القاتل يضحى من الطبيعي أن يشتد عود القوميات والشوفينيات، وتتعالى أصداء العداء للسامية أوروبياً وأميركياً من جديد، وتضحى الإسلاموفوبيا «صرعة» عصرنا الحاضر. من ينقذ العالم من الأيديولوجيات السامة؟
*كاتب مصري