الاعتقاد بأن مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل قررت اعتزال الحياة السياسية بعد انتهاء فترة انتخابها كان ثمن موافقتها على استقبال النازحين من الشرق الأوسط، هو اعتقاد خاطئ. صحيح أن هناك معارضة «قومية» ضد النازحين، ولكن هذه المعارضة أضعف من أن تفرض على ميركل قرار الاستعفاء. أما السبب الحقيقي فهو نجاح الرئيس دونالد ترامب في تنفيذ الشعارات السياسية التي أوصلته إلى البيت الأبيض.
تقف ميركل وترامب على طرفي نقيض من:
الموقف من اتفاق مؤتمر باريس حول التغير المناخي. فميركل تعتبر الاتفاق انتصاراً للإنسانية، فيما يعتبره ترامب كارثة على الولايات المتحدة.
الموقف من الاتفاق النووي مع إيران. ميركل ومعها الاتحاد الأوروبي مع الاتفاق، وترامب ضده.
الموقف من خط الغاز رقم 2 الذي يربط روسيا بألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق. ميركل تعتبره ضرورة للاقتصاد الألماني والأوروبي، فيما يعتبره ترامب دعماً لروسيا، والتفافاً على صادرات الغاز الأميركية.
الموقف من المادة الخامسة من معاهدة الناتو- حلف شمال الأطلسي حول مساهمات الدول الأعضاء في ميزانية الحلف وفي نسبة الإنفاق العسكري. ميركل تعتبر أنها تساهم بما فيه الكفاية، وترامب يطالب بالمزيد. الموقف من المبادئ والقيم الغربية وخاصة تلك التي تتعلق بحقوق الإنسان، والحريات العامة واحترام التعدد. ميركل تعتبر أن هذه المبادئ والقيم تتعرض لانتهاكات مباشرة وسافرة ويومية من الرئيس ترامب، داخل الولايات المتحدة وفي العالم. أما الرئيس الأميركي فانه يؤكد على أن المقياس في ذلك كله هو المصلحة الأميركية تنفيذاً لشعاره «أميركا أولاً».
وهكذا فان ألمانيا – ميركل – تجد نفسها لأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية على نقيض مع السياسة الأميركية. وهذا يعني أن استمرار العلاقة لم يعد ممكناً، وبالتالي لابد من الطلاق. ليست ميركل وحدها في مواجهة هذا التحول. الرئيس الفرنسي ماكرون يتماهى في مواقفه معها، بل إنه يذهب أحياناً إلى أبعد من هذه المواقف. ويمكن قراءة نص الطلاق الألماني – الأميركي في الأمرين التاليين:
الأول: عسكرياً/ السعي لإنشاء قوة عسكرية أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة.
ثانياً: مالياً/ إعداد مشروع للتعامل المالي الدولي خارج الهيمنة الأميركية (سويفت).
ولكن الطلاق الألماني – الأميركي هو في جوهره طلاق أوروبي – أميركي. فهل تتحمل أوروبا تبعات هذا الطلاق؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى: أوروبا ليست موحدة. هي ليست موحدة مع ألمانيا ميركل، ولا هي موحدة في مواجهة أميركا ترامب. الحجم العسكري والاقتصادي الأميركي يفوق كثيراً حجم الدول الأوروبية مجتمعة.
من هنا، وإدراكاً من ميركل لصعوبة –أو لاستحالة- المواجهة مع أميركا، فقد آثرت الانسحاب من الحياة العامة لدى انتهاء فترة انتخابها. فهي لا تستطيع أن تتزعم أوروبا كما أنها لا تستطيع أن تواجه أميركا.
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية قامت السياسة الألمانية على قاعدتين: الارتباط بالولايات المتحدة عن طريق حلف «الناتو» والارتباط بفرنسا عن طريق أوروبا والاتحاد الأوروبي.
وكان المستشار الألماني الأول «كونراد أديناور» مؤسِّس سياسة الالتزام بهاتين القاعدتين. ولكن الولايات المتحدة برئاسة ترامب تضيق ذرعاً بالأعباء التي تتحملها دفاعاً عن أوروبا عامة وعن ألمانيا بصورة خاصة. ودبلوماسية أميركا أولاً، تعني فرض التزامات مالية وعسكرية وسياسية على ألمانيا تخفيفاً عن أعباء الولايات المتحدة وهي أعباء لا طاقة لألمانيا بها. فكان الطلاق.
لعل من حسنات هذا الطلاق أنه يعزز الروابط الألمانية – الفرنسية. فالرئيس ماكرون يشاطر ميركل استياءها من السياسة الأميركية. وقد استخدم لغة أكثر وضوحاً وجرأة في انتقاد هذه السياسة. ولكن الولايات المتحدة قادرة على الضغط على ألمانيا أكثر من قدرتها على الضغط على فرنسا.
ومع «الانسحاب» البريطاني من الاتحاد الأوروبي، يتعزز موقف ترامب في ابتزاز ألمانيا وفي احتواء فرنسا. ولذلك فان الرئيس الأميركي لم يعد يؤمن بجدوى حلف الأطلسي.. ولا بأهمية الاتحاد الأوروبي. ومن بعيد، من وراء أسوار الكرملين، يردد الرئيس فلاديمير بوتين: «لم آمر بها.. ولم تسؤني !».
*كاتب لبناني