بناء على أن الشخص العادي ينام في المتوسط 8 ساعات خلال اليوم الواحد، نقضي جميعاً ثلث حياتنا –على الأقل- منذ ولادتنا وحتى وفاتنا، ونحن نائمون. وهو ما يجعل للنوم مساحة وقت من حياتنا، لا تضاهيه فيه أيا من المهام اليومية أو السلوكيات البشرية الأخرى. ولذا، وعلى حسب مبادئ التطور البيولوجي، وأساسيات نظرية النشوء والارتقاء، لا بد من أن النوم يحقق منفعة كبيرة، وفوائد جمة للكائن الحي، وإلا ما كان استثمر فيه كل هذا الوقت. وإذ أضفنا إلى ذلك حقيقة أن ساعات النوم هي فترة ضعف وغفلة للكائن الحي، يصبح خلالها فريسة سهلة للحيوانات الأخرى، فسندرك ساعتها أن للنوم أهمية عظمى، وإلا ما كان للتطور البيولوجي، ومبدأ البقاء للأصلح، أن يسمح بوضع الكائن الحي في هذه الوضعية الهشة والخطيرة لساعات طويلة يومياً، لو لم يكن النوم ضروري للاستمرار في الحياة ذاتها.
ضرورية النوم هذه للاستمرار في الحياة، لم تخفى عن أذهان زبانية التعذيب، منذ بدايات التاريخ وحتى العصر الحديث، حيث يعتبر الحرمان من النوم أحد أقدم وسائل التعذيب على الإطلاق. وفي العصر الحديث، وفي العقود الأخيرة بشكل خاص، شهد التعذيب من خلال الحرمان من النوم، زيادة مطردة في الاستخدام. ونتجت هذه الزيادة الحديثة للحرمان من النوم كأسلوب في التعذيب، من فداحة آثاره العقلية والنفسية الفادحة على الضحايا، ودون أن يترك آثاراً جسدية واضحة، يمكن أن تستخدم لاحقاً لمقاضاة من مارسوا التعذيب.
ولكن لماذا ننام؟ مما لا شك فيه أن إنسان ما قبل التاريخ أدرك أن فترة النوم هي فترة للراحة واستعادة النشاط، وهو ما يتوافق مع أحدث النظريات العلمية التي تحاول تفسير فوائد النوم، والتي ربما أشهرها وأكثرها قبولا في الأوساط العلمية، نظريات التجديد أو الشفاء (Restorative Theories). وتنص هذه النظريات على أن النوم عملية ديناميكية، تقوم خلالها الخلايا والأعضاء بالنماء والازدياد، مما يساعد الجسم على الاستشفاء والالتئام.
وإن كانت الدراسات الحديثة، تحت المجال الطبي المعروف بطب النوم (Sleep Medicine)، أظهرت أن للنوم فوائد تتخطى بكثير كونه مجرد فترة راحة واستشفاء، مثل كونه فترة لتعزيز ودمج الذكريات، وترتيب وتنظيم الأفكار، وأحيانا حتى حل المشكلات والمعضلات الحياتية. فبناء على أن العقل البشري يتعرض لسيل مستمر من المعلومات والمواقف والمشاعر في ساعات يقظته، ورغم أن القدرات العصبية تمكنه من التعامل مع تلك المواقف واتخاذ القرارات الصائبة بشأنها، إلا أن كل ذلك يحدث بشكل لحظي، وبدون فرصة للإدراك العميق، أو لخلق الترابط بين الماضي والواقع الحالي. ولذا يستغل المخ فترة النوم، لوقف السيل الداخل إليه من المعلومات ومن المثيرات العصبية، وفي الوقت نفسه ترتيب وتنظيم ما تعرض له خلال اليوم من مواقف ومن مشاعر وأفكار.
فوائد النوم الأخرى تلك، يسعى مجال علمي حديث، يعرف بهندسة النوم (Sleep Engineering) إلى تحقيق أكبر قدر من الاستفادة منها. هذا المجال لا يسعى إلى علاج أمراض النوم مثل الأرق، أو زيادة ساعاته، أو حتى تحسين نوعيته، وإنما يقتصر فقط على إجراءات وتدابير محددة، تهدف لتعظيم وزيادة الفوائد التي يجنيها المرء خلال ساعات نومه.
وربما كان أهم الفوائد التي يسعى مجال هندسة النوم لحصدها، هي زيادة قدرة الفرد على الإبداع والابتكار. فالإبداع، في أبسط تعريفاته هو خلق أو إنتاج شيء جديد ذي قيمة، وهو كثيراً ما يتطلب الربط، والمزج، والدمج بين مجالات معرفة متنوعة، وبين ذكريات خاصة وتجارب شخصية. وهو تماماً ما يحدث في فترة النوم، حيث يعيد المخ ترتيب المعرفة اليومية والذكريات، وربطها ودمجها ببعضها البعض. وغالبا ما تتجسد الأفكار والمفاهيم التي ولّدها الإبداع في أشكال مختلفة، وإن كانت غالبا ما تظهر في أشكال يمكن لنا أن نراها، أو نسمعها، أو نشمها، أو نلمسها، أو أن نتذوقها.
وعلى حسب المبدأ الأساسي لعلم هندسة النوم، يمكن استغلال الفترة التي تكون الخلايا العصبية للمخ في حالة خاصة تعرف بمرحلة حركة العين السريعة، ومن خلال مؤثرات عصبية خارجية، سمعية أو حسية أو كهربائية، حث تلك الخلايا على محاولة إيجاد حلول عملية لمشكلات مستعصية، أو الخروج بأفكار مبتكرة، أو الربط بين معطيات متنوعة متبعثرة بين ذكريات متنوعة، لتوليد وخلق أفكار إبداعية. وغني عن الذكر هنا أن هذا المجال لا زال يخطو خطواته الأولى، وإنْ كان البعض يؤمن بأنه مجال واعد، سيزيد ويحسن من القدرات الذهنية البشرية، وسيبشر بمرحلة جديدة من الإبداع والابتكار الإنساني.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية.