لم تبدأ محادثات التجارة رسمياً بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد، لكن كلا الجانبين يتفقد حدود التفاوض. وبريطانيا تلون بعض الخطوط بالأحمر، وتستعد لمعركة في وقت لاحق هذا العام في مواقع ثلاثة، هي الصيد البحري، والخدمات المالية، وحرية الاستقلال عن القواعد التنظيمية للاتحاد الأوروبي. والقضايا الثلاث مشحونة، لكن القضية الأخيرة ربما هي ما سيعصف بآمال التوصل إلى اتفاق تجارة سريع. ونظراً لاعتزام المملكة المتحدة ترك الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي وسوقه الموحّدة وإبرام اتفاقات تجارة مع دول أخرى، فإن أفضل ما تأمل فيه لندن هو اتفاق هيكلي على عدم فرض رسوم على معظم قطاعات البضائع. وهناك وقت يكفي للتفاوض حول كل هذا قبل الموعد النهائي الذي فرضه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على نفسه بحلول نهاية العام الجاري. لكن هذا قد يكون صعباً، إذا صح ما تنبئ به المؤشرات المبكرة.
فقد أعلن وزير الخزانة البريطاني، ساجد جاويد، في الأيام القليلة الماضية أن بريطانيا ستحتفظ بحق الاستقلال عن قواعد ولوائح الاتحاد الأوروبي، بصرف النظر عما تتمخض عنه محادثات التجارة بينهما. وقال ل«فاينانشيال تايمز»: «لن يكن هناك انتظام في الصف، ولن نكون متلقين للقواعد، ولن نكون في السوق الموحدة، ولن نكون في الاتحاد الجمركي، وسنقوم بهذا بحلول نهاية العام».
ويثير ذلك التصريح سؤالين: هل هو جاد؟ وماذا يعني بالضبط؟ لقد كانت تريزا ماي، رئيسة الوزراء السابقة، تراوغ غالباً، حين كانت تتحدث عن تبنيها موقفاً تفاوضياً صارماً بشأن بريكسيت. لقد كانت تواجه عناصر كثيرة متناحرة في البرلمان، وكان عليها إرضاء حزبها (المحافظون). وكان التوصل إلى اتفاق انسحاب يمثل أولوية لتسوية أوضاع مواطني الاتحاد الأوروبي، وسداد فاتورة الانفصال والمسألة المحورية المتعلقة بالحدود الأيرلندية. وكانت ماي تعتقد بصدق أن الانفصال عن لوائح الاتحاد الأوروبي لن يكون إلا مصدر شقاق، وتكلفة زائدة للأنشطة الاقتصادية البريطانية.
لكن يتعين حمل تصريح جاويد محمل الجد. فلدى رئيسه، جونسون، أغلبية مريحة في البرلمان، وقد تمت إزاحة مؤيدي البقاء في التكتل ومؤيدي التوصل إلى بريكست سلس. وموقف جاويد يمثل عقيدة أكثر من كونه حيلة سياسية. وينظر جونسون وحلفاؤه إلى الانفصال عن القواعد التنظيمية الأوروبية باعتباره فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد البريطاني والعلاقات التجارية للبلاد. والاستقلال في اللوائح التنظيمية شرط لا غنى عنه لتحقيق بريكست حقيقي.
وتريد بروكسل شيئاً يلزم البريطانيين أكثر، بما في ذلك التزام بريطانيا بأرضية المنافسة المتساوية، مما يعني أنها ستحتاج إلى قواعد مشددة بالمثل في القضايا الاجتماعية وحماية البيئة والضرائب ومساعدات الدولة. وكان ميشيل بارنييه، مفاوض الاتحاد الأوروبي في بريكست، قد جعل منذ فترة طويلة هذه الاشتراطات في صلب مطالب التكتل.
ولن تتقاعس بروكسل عن ربط الأجزاء المختلفة من المفاوضات للحصول على ما تريد. وقد أوضح فيل هوجان، مفوض التجارة الأوروبي، أن الدخول إلى السوق الأوروبية الموحدة قد يتوقف على احتفاظ التكتل بحقوقه الحالية في الصيد في المياه البريطانية. وإذا حالت رغبة بريطانيا في الاستقلال عن القواعد الأوروبية دون تلبية اشتراطات أرضية المنافسة المتساوية، فقد تتضاءل بشدة احتمالات التوصل إلى اتفاق تجارة حرة.
وإذا أُبرمت صفقة للبضائع، ستظل هناك عراقيل غير جمركية في التجارة. وربما تذعن الشركات طوعاً للوائح الاتحاد الأوروبي، لكن هذا سيحتاج إلى رقابة وفحص لـ«قواعد المنشأ» وإلى ممثل من الاتحاد الأوروبي ليضمن قانونية المنتجات البريطانية. وكل هذا سينطوي على تكلفة إضافية. لكن، إذا تقلص نطاق الصفقة لدرجة لا تحقق فيها الفوائد الاقتصادية والسياسية المعنية، فهل تستحق الإبرام أصلا؟ وحماس الاتحاد الأوروبي لاشتراطات التطبيق في أي صفقة جديدة، بما في ذلك الغرامات والعقوبات، قد يمثل عاملاً مثبطاً آخر.
ومن المعقول افتراض أن رغبة المملكة المتحدة في الحفاظ على السماح بالدخول إلى قطاعها المالي الضخم سيجعلها تتمسك بطاولة التفاوض، ومقابل هذا ستحصل على تنازلات في الصيد. وربما يكون هذا سوء تقدير يفترض أن جونسون لديه استعداد للتفاوض بشأن الصيد. صحيح أن صيد الأسماك يمثل قطاعاً صغيراً من الاقتصاد البريطاني، لكن استعادة السيطرة على «مياهنا» يعتبره أنصار بريكست قضية مقدسة. والصيد مهم أيضاً لاسكتلندا، فأي تنازل عن الحقوق فيه قد يؤدي إلى حركة استقلال اسكتلندية. وبريطانيا تصدر معظم حصيلتها من الأسماك، ومن ثم، فإمكانية الدخول للأسواق الأوروبية تمثل عاملا محفزاً. لكن جونسون يريد أن يستعرض بعض المكاسب في هذا المجال كنتيجة لبريكست.
وربما بالغ الاتحاد الأوروبي أيضاً في تقييم رغبة بريطانيا في الفوز بـ«التكافؤ» لحي الخدمات المالية في لندن، لدرجه جعلته يعتقد أن هذه الرغبة ستحفز لندن على تقديم تنازلات. فقد شهدت لندن بنفسها أن التكتل سحب التكافؤ من السويسريين لمعاقبتهم على تلكئهم في اتباع القواعد الداخلية لسوق التكتل. وهذا السلاح قد يستخدم لاحقاً ضد بريطانيا. أما الآن، فقد أصبح خروج بريطانيا مؤكداً، لكن ما لم يتم التوصل لاتفاق تجارة مقبول من الطرفين، فمن السهولة إتمام بريكست بلا صفقة.

*كاتبة متخصصة في الشؤون الأوروبية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»