بدأت معركة الرئاسة الأميركية. وفي الوقت الذي يواجه فيه الرئيس دونالد ترامب محاولات إدانته في الكونجرس، على خلفية اتهامه بتوظيف نفوذه السياسي لحمل رئيس أوكرانيا على تشويه سمعة منافسه الديمقراطي جو بايدن، فإنه يحاول العودة إلى البيت الأبيض على حصان الانسحاب من أفغانستان.
التزم الرئيس ترامب بعدم التورط في أي صراع عسكري خارجي. ولذلك بادر إلى مفاوضة رئيس كوريا الشمالية سياسياً، وطعن بصدقية وجدوى حلف شمال الأطلسي، وسحب معظم قواته من شمال شرق سوريا. وهو يفاوض الآن حركة «طالبان» لسحب بقية قواته من أفغانستان، التي يبلغ عددها 14 ألف عسكري، وإذا نجح في ذلك، فإن ورقة الانسحاب ستكون ورقته الرابحة في الانتخابات الرئاسية، فهل ينجح؟
وضعت الولايات المتحدة على حركة «طالبان» ثلاثة شروط: الاعتراف بحكومة كابول (أشرف غاني) كطرف في المفاوضات (وليس كممثل للشعب الأفغاني).
وقف إطلاق النار. وقطع العلاقات مع تنظيم «القاعدة»، وما تبقى منه بعد مقتل مؤسسه أسامة بن لادن. مقابل ذلك وضعت حركة «طالبان» ثلاثة شروط:
لا وقف لإطلاق النار طالما أن في أفغانستان قوات أجنبية (أميركية أو أطلسية). لا مفاوضات على الحل النهائي مع الولايات المتحدة (المفاوضات تدور فقط حول انسحاب القوات الأميركية). لا اعتراف بحكومة الرئيس أشرف غاني.
وافقت «طالبان» على الشروط الأميركية. ووافقت الولايات المتحدة على الشروط «الطالبانية». وانطلقت المفاوضات لتحقيق هدف أساسي واحد يريده الرئيس ترامب، وتريده «طالبان»، وهو انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان. مع ذلك لم تكن المفاوضات سهلة. من أجل ذلك لجأت إدارة الرئيس ترامب إلى الضغط غير المباشر على حركة «طالبان» من خلال كل من باكستان والصين. وانعكس ذلك تحسناً على علاقات واشنطن مع كل من إسلام آباد وبكين.
لم يكن الرئيس ترامب أول رئيس أميركي يفاوض «طالبان». سبقه إلى ذلك الرئيسان السابقان جورج بوش (الابن) وباراك أوباما. جرت في عهد هؤلاء الرؤساء الثلاثة تسع مبادرات غير ناجحة. ثلاث منها في عهد ترامب، ومن هذه المبادرات الثلاث، مبادرته الحالية. وهي مبادرة لا تتطلع إلى الانسحاب كهدف في حد ذاته، بل كوسيلة لتعزيز حظوظه في العودة إلى البيت الأبيض في دورة رئاسية ثانية.
غير أن العقدة التي واجهتها كل تلك المبادرات، هي أن طالبان ترفض التفاوض على أي حل نهائي مع الولايات المتحدة. وتصرّ على حصر المفاوضات معها في موضوع الانسحاب فقط. وهي ترفض الاعتراف بأي شرعية للحكومة الأفغانية الحالية. وتصرّ على إقامة نظام حكم إسلامي. ويعزز تمسكها بهذا الأمر، فشل الولايات المتحدة في إقامة نظام حكم يشمل كل أفغانستان، رغم مرور 18 عاماً على الاحتلال. فحركة «طالبان» باعتراف الولايات المتحدة ذاتها، لا تزال تسيطر على معظم أفغانستان.
ثم إن حلف شمال الأطلسي الذي يشارك القوات الأميركية بحوالي ثمانية آلاف عسكري، أصبح الآن كما وصفه الرئيس الفرنسي ماكرون:«في حالة موت دماغي».
ولذلك فإن قوات الدول الأعضاء في الحلف، قد تسارع إلى الانسحاب مع القوات الأميركية.. وقد تسبقها في ذلك، لأنها لم تعد تؤمن بجدوى مواصلة الاحتلال.. دون هدف.
عندما بدأت أولى مفاوضات أميركية مع «طالبان»، كان ذلك في عهد الرئيس باراك أوباما. ولكنها كانت مفاوضات خجولة. إذ سرعان ما تعثرت. فقد أبدى أوباما حسن نية ترجمها بالمبادرة إلى سحب جزء من قواته. ولكنه سرعان ما ارتدّ إلى الموقف المعاكس تحت ضغط البنتاجون - وزارة الدفاع - فأرسل المزيد من القوات، ولكنه كان قد تسلّم الجائزة. مع ذلك لم يغيّر تعزيز القوات الأميركية من معادلات القوى على الأرض الأفغانية!
كانت حكومة كابول –الموالية لواشنطن- تعارض المفاوضات، إلا إذا كانت هي طرفاً مباشراً وأساسياً فيها. غير أن المفاوضات الأخيرة استبعدتها تماماً. وجرت حتى على حسابها.
فبعد أن توصلت «طالبان» إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، حمل نصّ الاتفاق إلى كابول رئيس الوفد الأميركي المفاوض زلماي خليل زاده (وهو أميركي من أصل أفغاني) ليطلع رئيس الحكومة أشرف غاني عليه. وبعد أن سمح له بقراءته، استعاده منه. وكان ذلك تصرفاً دبلوماسياً شاذاً، لا يخلو من الإهانة.. ولعله كان أحد شروط طالبان.
لم تعد أفغانستان، ولا رئيسها، هدفاً للولايات المتحدة. أصبح الهدف هو الانسحاب منها.. من أجل تسهيل العودة الثانية إلى البيت الأبيض.