قبل ظهور وباء كورونا الحالي، ومع استمرار تفاؤل الخبراء بفائض عائدات النفط، وبالتحديد في سبتمبر الماضي (أي منذ نحو 6 أشهر)، أعلن البنك المركزي الروسي أنه لا يستبعد تراجع الأسعار الى 25 دولاراً للبرميل في 2020، في إطار توقعاته المحدثة للاقتصاد الكلي وتصوره للمخاطر المحتملة، وتوقع في حال تحقق ذلك أن يقفز معدل التضخم إلى 8%، مع تراجع الناتج المحلي الإجمالي بين 1.5 و2%. وكأنه بذلك كان يقرأ جيداً أبعاد «الرؤية السياسية» للرئيس فلاديميربوتين حول العلاقات الدولية، وعودة معركة النفط إلى قلب الصراع بين روسيا والولايات المتحدة، بعد هدنة استمرت ثلاث سنوات، تنفيذاً لاتفاق التعاون والتنسيق مع المملكة العربية السعودية في قيادة تحالف «أوبك+»، حيث شهدت الأسواق استقراراً في الأسعار وفَّر فوائض مالية لاقتصادات الدول المنتجة.
وفي الشهرين الأولين من العام الحالي، بدأت الأسعار تنخفض، وتراجع برنت 15 دولاراً إلى 49.67 دولار للبرميل. وأبدى الرئيس بوتين رضاه عن هذه الأسعار رغم تراجعها، واعتبرها مقبولة لميزانية بلاده، في ضوء وجود أكثرمن 500 مليار دولار في خزائن الدولة، موضحاً أن روسيا تملك موارد كافية للتأقلم مع أي تدهور في الاقتصاد العالمي، ومؤكداً في الوقت نفسه أهمية التعاون مع «أوبك +». وقد اعتبر ذلك رسالة طمأنة للداخل الروسي قبل اجتماع أوبك الأخير. لكن المفاجأة كانت برفض روسيا تخفيض الإنتاج، ما أدى إلى تدهور الأسعار الذي سيلحق خسائر كبيرة بالدول المنتجة كافة، والخسارة الأكبر ستلحق بالاقتصاد الروسي نفسه، والتي قدّرها رئيس «غرفة الحساب» في موسكو، ألكسي كودرين، بنحو 41.8 مليار دولار، إذا تراجع متوسط سعر البرميل حتى 35 دولاراً، على أن يرتفع حجمها مع كل تراجع بالسعر. لذلك أحدث القرار صدمة كبرى لشركات النفط الروسية التي وصفته بأنه «خطأ فادح.. وقرار غير عقلاني»، وسط تشكيك بقدرة روسيا على التعويض عن خسائرها عبر زيادة إنتاجها النفطي، الأمر الذي يؤثر على نمو اقتصادها، وسيدفع نحو تراجع تمويل «صندوق الرفاه» الروسي، فضلاً عن تأثيره على سعر صرف الروبل الذي تمتع بدعم كبير من فائض عائدات النفط، الذي تم توفيره نتيجة الفارق بين السعر المعتمد في الميزانية (41 دولاراً للبرميل) والسعر في الأسواق العالمية (مستقر طيلة ثلاث سنوات فوق 55 دولاراً).
وهكذا يتعرض الاقتصاد الروسي لـ«ضربة مزدوجة» جراء تفشي كورونا وهبوط أسعار النفط، لذلك أقرت موسكو إجراءات عاجلة للتخفيف من الآثار السلبية لهذه الضربة، ويركز البنك المركزي الروسي على منح مختلف القطاعات تسهيلات إئتمانية، لضمان استقرارها المالي ومواصلة عملها، مع اعترافه بأنه «لا يمكن التنبؤ بالأثر الاقتصادي الكامل للأحداث الجارية حالياً».
لقد اتضح أن قرار رفض تخفيض الإنتاج، اتخذ على أعلى المستويات في موسكو، وإذا كانت القرارات السياسية تأتي في خدمة المصالح الاقتصادية، فقد بدت هذه المرة غير مطابقة لحسابات الاقتصاد في معركة النفط، والتي من أهدافها تضييق الخناق على إنتاج النفط الصخري الأميركي، الذي تقترب تكلفة استخراجه من 49 دولاراً للبرميل، ولذلك يتحمل البلدان خسائر كبيرة، نتيجة تدهور الأسعار، لكن تبقى الولايات المتحدة أقل خسارة بسبب عدم اعتماد اقتصادها على تصدير النفط.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية