بعد مضي نحو خمس سنوات، يتخوف العراقيون من تكرار تجربة عام 2014 بجعل بلادهم من دون موازنة مالية، نتيجة التوتر السياسي الحاصل جراء الاحتجاجات المتواصلة منذ أكتوبر الماضي، والتي أدت إلى استقالة حكومة عادل عبدالمهدي وتحويلها إلى حكومة تصريف أعمال، ليس لديها صلاحيات إرسال مشروع قانون موازنة العام الحالي إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره، في ظل استمرار الخلاف بين الأحزاب حول تشكيل حكومة جديدة تكون قادرة على إدارة شؤون البلاد ومعالجة الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً الصحية منها بعد تفاقم انتشار وباء كورونا في مختلف المناطق العراقية، وتراجع أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة، بشكل يؤدي إلى مضاعفة العجز المالي لخزينة البلاد.
عندما أعدت الحكومة في أكتوبر الماضي مشروع الموازنة، اعتمدت 53 دولاراً كسعر لبرميل النفط وقدّرت الإيرادات بنحو 95.7 مليار دولار مقابل 136 ملياراً للنفقات، وبعجز يصل 40.3 مليار دولار، على أمل تغطيته عن طريق الاقتراض من الخارج، الأمر الذي يغرق البلاد بمزيد من الديون التي تجاوزت «الخطوط الحمر»، وأصبحت تهدد بأخطار تحد من جهود التنمية وتعرقل عمليات إعادة الإعمار. لكن الأخطر من ذلك أن العراق يواجه حالياً ما يشبه «الكارثة المالية» مع تراجع الأسعار إلى أقل من 23 دولاراً البرميل، وبما يؤدي إلى مضاعفة العجز المالي، خصوصاً أن الموارد النفطية تشكل أكثر من 90% من ميزانيته وتمثل 99% من مجموع صادراته. وتنفق الحكومة في الوقت الحالي نحو 3.5 مليار دولار شهرياً فقط لدفع الرواتب في القطاع العام، بينما عائدات النفط لا تزيد عن المليار دولار. لذلك يرى «مظهر محمد صالح»، المستشار المالي لرئيس الوزراء، أن الحل الوحيد هو إعادة هيكلة الموازنة وإعادتها إلى المربع الأول، لأن العجز لا يحل إلا بعملية جراحية مالية تحتاج لتضحيات وتتطلب تعديل التشريعات الصادرة منذ عام 2013، والتي ترتبت عليها تبعات مالية كبيرة غير قابلة للتغيير، وهو يستبعد إقرارها من دون تحقيق ذلك.
لقد واجه العراق وما يزال أخطاراً على مستوى الأمن والمؤسسات، هي الأعلى بين كل الدول. وكنتيجة طبيعية لتدهور وضعه المالي، تراجع تصنيفه الائتماني إلى درجة سلبية، ما أفقده ثقة الممولين الدوليين وأفشل محاولاته الكثيرة للاقتراض بإصدار سندات يطرحها في الأسواق العالمية، بسبب تكلفتها المرتفعة، لكنه نجح بعد ذلك في الحصول على قروض عدة، بدعم من الولايات المتحدة والبنك الدولي، وبعد خضوعه لشروط قاسية فرضها صندوق النقد الدولي، أهمها: إصدار قانون للإدارة المالية، وإدخال هيئة النزاهة كطرف فاعل في متابعة الإنفاق، واعتماد وثيقة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، ومنع تهريب العملة الأجنبية، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتقييد وزارة المالية بأسس جديدة وإخضاع الديون الخارجية والداخلية للتدقيق.
لكن التطورات أثبتت أن منظومة الأحزاب الممسكة بإدارة السلطة السياسية، والتي تواجه حالياً صعوبات في تشكيل حكومة جديدة، غير قادرة على توفير الأمن والاستقرار، بسبب انغماسها في الفساد والمذهبية والنفوذ الخارجي. وهذا رغم أن تشكيل الحكومة أهم شروط مؤسسات التمويل الدولية.
02/ 04/ 2020

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية