مُنذ أن نجحت الثورة الشعبية في السودان في إطاحة نظام الحكم السابق، يقوم «مجلس السيادة» والحكومة الانتقالية بجهود مكثفة للملمة الأطراف السودانية المعارضة، وجلبها إلى طاولة التفاوض من أجل إلقاء السلاح، وتحقيق السلام على كامل الأرض السودانية.
بعض الأطراف المعارضة، وقادتها الموجودون في خارج البلاد إلى الآن لا يزالون يدورون في حلقة مفرغة من الرغبة وعدم الاتفاق، والخروج بشروط تعجيزية جديدة تنسف كل ما يتم التوصل إليه، وأهم فصيلين يقومان بذلك هما اللذان يقودهما عبدالعزيز الحلو، وعبدالواحد محمد نور.
ويبدو أن الفصائل التي لم تلق بعد سلاحها مدعومة من الخارج لأهداف يبدو بأنها تصب في خانة تفتيت السودان، وعدم استقراره، فقبل سقوط النظام السابق كانت جهات خارجية معنية عدة تصب الاتهامات على السودان من ثلاثة جوانب في ما كان يبدو بأنها استراتيجية محددة لتفتيت البلاد، هي: أن الحروب الدائرة هي دينية عنصرية، وأن النظام يفرض تجويعاً على سكان المناطق التي تشهد تمرداً في الغرب وجبال النوبة، وثالثاً، أن النظام السابق هو الذي لم يكن يريد التوصل إلى حلول مع الفصائل التي تحمل السلاح ضده، ويريد هزيمتها بالقوة غير آبه بتحقيق السلام.
الهدف من تلك الاتهامات القاسية في السابق كان معروفاً وهو تفتيت البلاد وعدم استقرارها، لأنها اتهامات لم يكن بالإمكان إثباتها من قبل الذين كانوا يطلقونها في الخارج، لأن أقدامهم لم تطأ أرض المناطق المنكوبة في غرب السودان وجبال النوبة ومناطق النيل الأزرق، ولم يشهدوا شيئاً من ذلك بأنفسهم لصعوبة وصولهم إليها لوعورتها واحتدام المعارك فيها.
لكن بعد أن سقط النظام السابق إلى غير رجعة، لماذا لم تجلس الفصائل التي تحمل السلام بعد إلى طاولة المفاوضات، ولماذا قادتها باقون في الخرج، ويتفاوضون مع الحكومة الجديدة في الخارج، وكلما اقترب الحل ابتعدوا هم عنه، عن سبق إصرار وتعمد؟
وبالتأكيد أنه ليس بالإمكان الخوض بالتفصيل الدقيق في كل ما يدور من التفافات ومناورات واستدارات، لكن ما نراه كمراقبين خارجيين ودارسين للشأن السوداني القائم هو أن هؤلاء الذين لا يزالون يحملون السلاح في وجه إخوانهم السودانيين الآخرين، مدعومون من الخارج في عملية كبرى تستهدف وحدة السودان في صميمها في ما تبقى من أراضيه بنفس الأسلوب الذي مورس سابقاً لفصل جنوب السودان عن السودان الموحد.
من زاوية أخرى، عندما ندقق في التصريحات والكتابات التي تصدر في الخارج سواء عن أولئك المحسوبين على الفصائل المتمردة، أو جهات خارجية بعينها فيها الكثير من التلفيق والافتراء الذي يهدف في المقام الأول إلى توجيه اللوم إلى سكان شمال السودان وحدهم بأنهم السبب في جميع الأمراض التي تعاني منها البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وكأن بقية سكان السودان في المناطق الأخرى ليس لهم يد في ما يحدث.
وهذا طرح فيه سطحية وتبسيط وتجن، وكأن السودان هو وطن لسكان شمال السودان وحدهم، وليس هو موطن للجميع. الكل مسؤول عما يحدث فيه بغض النظر عن جميع التفاصيل الأخرى، سواء مناطقية أم غيرها.
لذلك، فإن المسألة كما نراها تتعلّق بقضية استقرار السودان وتماسك أراضيه، وهي قضية معقدة ومتشابكة وصارت ملحة، فهذه القارة المصغرة التي تشكلت كدولة وطنية حديثة كجزء من الإرث البريطاني الاستعماري الذي قام بتجميع منظومة واسعة من القوميات العربية والزنجية والنوبية في كيان سياسي موحد وأخضعها لمنظومة مصالحة الاستراتيجية والاقتصادية في شرق ووسط أفريقيا بعد أن تمكن من تحييد النفوذ والتطلعات والمطامح الأخرى، وخرجت على أثر ذلك كدولة تعاني على صعيد وحدتها منذ الأيام الأولى للاستقلال، هي في أشد الحاجة اليوم إلى تكاتف وتعاضد جميع أبنائها تاركين وراء ظهورهم جميع اختلافاتهم الاثنية، أياً كانت، وأول أولئك هم الذين لا يزالون يطلقون على أنفسهم المعارضة في الخارج. المعارضة ضد من، ومن أجل ماذا؟ تبدو لنا في طروحات هؤلاء الكثير من المصالح الشخصية وخدمة الغرباء! فهل يدرك هؤلاء المعارضون ذلك، ويتصالحون مع أنفسهم وبني جلدتهم؟ إن الله على كل شيء قدير.
*كاتب إماراتي