يدهشني عادة سماع أحاديث توحي وكأن علاقات بريطانيا بالإسلام وبالعالم الإسلامي ما هي إلا أمر حديث العهد لا يمتد سوى لبضع سنوات مضت فحسب، بما يشبه المراحل الأولى من علاقة شخصين ببعضهما بعضاً مازالا يتعرفان كل منهما على الآخر، وعلى ما يمثله. والحقيقة هي أن المسلمين يمثلون جزءاً لا يتجزأ من بريطانيا ومن أساليب حياتنا -في المملكة المتحدة وفي الخارج على حد سواء- منذ قرون طويلة مضت. ويضم المتحف البريطاني بلندن عملة تم صكها في القرن الثامن أيام الملك "أوفا" تحمل على كلا جانبيها نصوصاً باللغة العربية. لا أحد يعلم على وجه التحديد لمَ صك الملك "أوفا" عملة تحمل نصوصاً عربية، لكن ذلك يعبر عن إحدى أولى الروابط المعروفة بين بريطانيا والعالم الإسلامي. استمرت الاتصالات ما بين عالم إسلامي متقدم ومتحضر والغرب المتخلف الغارق في الفقر طوال العصور الوسطى، حيث كانت أوروبا وبريطانيا المستفيدين الأساسيين من وراثة ثقافات علمية وفلسفية غنية، إلى جانب الجامعات والتقدم الطبي والحساب والعديد غيرها من الفوائد التي لا تعَد ولا تحصَى، والتي كانت الدافع وراء عصر النهضة وأتاحت لأوروبا النهوض تدريجياً من العصور المظلمة. وقد استقر المسلمون خلال القرنين الماضيين في المملكة المتحدة بأعداد متزايدة إلى أن أصبح يُقدّر عددهم بمليوني مسلم يعيشون في المملكة المتحدة اليوم. وتم بناء أول مسجد في "ووكنغ" عام 1889، وفي عام 1940 تبرعت الحكومة بمبلغ 100,000 جنيه إسترليني لبناء أول مسجد في لندن –وهو ما يعرف الآن بمسجد "ريجنتس بارك"– تقديراً لشجاعة وبسالة الجنود المسلمين الذين حاربوا وقُتِلوا في سبيل بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى. واليوم هناك ما يربو على 1,200 مسجد منتشرة في جميع أرجاء المملكة المتحدة، ويعتبر الإسلام إلى حد بعيد ثاني أكبر ديانة فيها. يمثل المسلمون في بريطانيا اليوم محوراً أساسياً في حياتنا السياسية والتجارية والاجتماعية. وهناك عدد متزايد من المسلمين من الملتحقين بالقوات المسلحة البريطانية وبجهاز الشرطة وبالبرلمان. فعلى سبيل المثال يوجد الآن أربعة أعضاء مسلمين في مجلس "العموم"، وخمسة أعضاء مسلمين في مجلس "اللوردات"، ومسلم واحد عضو في البرلمان الأوروبي، وما يربو على 200 عضو بالمجالس البلدية. وهم يشغلون هذه المناصب المؤثرة بفضل مهاراتهم ومواهبهم والتزامهم تجاه أن يكون المجتمع أفضل وأكثر عدلاً وإنصافاً للجميع. ويتمتع المسلمون البريطانيون بالطبع بفوائد التعليم والرعاية الصحية والديمقراطية، ذلك علاوة على حرية ممارسة شعائر دينهم والمساواة بين الجنسين والتسامح والفرص المتاحة لهم -مثلهم مثل أي شخص آخر يعيش في المملكة المتحدة. وتتبنى الحكومة سياسة مساعدة المواطنين من ذوي الأصول غير البريطانية للاندماج بمجتمعنا، بينما تشجعهم في ذات الوقت على الحفاظ على هويتهم الثقافية إن رغبوا بذلك. وتعتبر بريطانيا بلدا أفضل وأكثر إثارة للاهتمام وأغنى ثقافياً بسبب هذا التنوع في مجتمعنا، وبالتالي فإن الحديث عن "الثقافة البريطانية" في أيامنا هذه لا يحمل أية معان دون الإشارة إلى هذه البوتقة الواسعة من المؤثرات الثقافية والعرقية التي يتألف منها مجتمعنا. ولهذا السبب فإنه من المثير للأسى العميق أن هناك من يريدون استغلال اختلافاتنا بغرض إثارة الكراهية الدينية والعرقية بين فئات مجتمعنا. وحقيقة أن التفجيرات التي وقعت بلندن في العام الماضي لم ينجم عنها نمط واسع الانتشار من الانتقام والانتقام المضاد ما هي إلا شهادة على تعاضد وتضامن أفراد مجتمعنا والاحترام المتبادل فيما بينهم. إلاّ أن هذا لا يعني أنه ليست هناك صعوبات من آن لآخر تواجهها العلاقات ما بين فئات المجتمع المختلفة؛ فمن السهل جداً نشوء سوء التفاهم والكراهية والنفور بينها. لذا يجب أن نستمر بالعمل دون كلل لتخفيف مثل هذا التوتر الذي لا داعي له للحد الأدنى، ولضمان ألاّ يكون للأقلية من العنصريين والمتطرفين أي موطئ قدم هنا. مازالت هناك صعوبات يواجهها المسلمون في المملكة المتحدة. فعلى سبيل المثال –ووفقاً للإحصائيات– من الأرجح أنهم يعيشون بالمناطق الأكثر فقراً في جميع أنحاء البلاد. بيْد أن الحكومة في جميع إداراتها تتوسع بجهودها الرامية لتحسين الفرص ومعالجة أوجه عدم المساواة لدى كل من فئات المجتمع. وحدثت في الواقع قفزة كبيرة بعدد المسلمين الملتحقين بالجامعات خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يمثل مؤشراً إيجابياً لوجود فرص أفضل أمامهم في المستقبل. ما برح العالم يصبح أصغر فأصغر، وبات يتعين على الأفراد من مختلف الثقافات والأديان أن يتعلموا التعايش مع بعضهم بعضاً أكثر من أي وقت مضى. بالطبع هذا سينجم عنه التوتر من آن لآخر، لكنه يوفر أيضاً فرصاً هائلة. هناك الكثير لنتعلمه من بعضنا بعضاً، وهذا التبادل في الآراء الجديدة يخلق الديناميكية التي تدفع بنا إلى الأمام فكرياً وعلمياً وثقافياً على حد سواء. حين ننظر للحضارة الإسلامية من الناحية التاريخية، فإنها تمثل نموذجاً لكيفية تعايش مزيج من الناس من مختلف الأصول العرقية والمذاهب والمعتقدات مع بعضهم بعضاً وتعلمهم من بعضهم بعضاً لخلق مجتمع ثقافي يحتل بمجمله أهمية أعظم كثيراً من أهمية مكوناته الجزئية. ورغم أن العلاقات ما بين مختلف المجتمعات لم تكن متناغمة أو يسيرة على الدوام، إلاّ أن هذا بمثابة مثال مبكر على وجود مجتمع متعدد الثقافات يختلف عن المجتمع الذي نطمح لتأسيسه اليوم، لكنه ليس بغريب عنه. وقد أدى هذا التنوع إلى وجود مزيج مبدع واصطفائي من الأفكار التي بعثت بالروائع الأدبية والإنجازات العلمية التي سبقت عصرها بمراحل كثيرة. وبالتأكيد يجادل المؤرخون بشأن الأسباب الحقيقية وراء ازدهار هذه الحضارة، لكن من الواضح أن الإلهام الذي مصدره الدين الإسلامي -وهو دين من بين تعاليمه التسامح والتعايش السلمي كما يؤكد لي دائماً زملائي المسلمون- كان له دور كبير في خلق هذا النموذج التقدمي للمجتمع. لورد ديفيد تريزمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وكيل وزارة الخارجية البريطانية للشؤون البرلمانية