في شهر أغسطس الماضي، أرسلت بعثة قطبية روسية غواصة إلى أعماق المحيط المتجمد الشمالي، لتثبيت علم روسي مصنوع من مادة التيتانيوم في قاع المحيط. وصورت الحكومة والصحافة في روسيا ذلك الحدث على أنه يمثل انتصاراً تاريخياً كبيراً، معتبرتين أن قاع المحيط المتجمد الشمالي قد أصبح بذلك ملكاً لروسيا بدءاً من سواحلها الشمالية وحتى القطب الشمالي ذاته (يعتقد الخبراء أن تلك المنطقة التي ادعت روسيا ملكيتها لها غنية بالنفط والغاز الطبيعي، وبالمعادن الثمينة أيضاً). وفي الشهر نفسه أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن طائرات بلاده ستستأنف مهامها الاستطلاعية بعيدة المدى في المحيطين الهادئ والأطلسي والتي ستطير خلالها بالقرب من الأراضي الأميركية وأراضي بعض الدول الأوروبية. ويذكر أن تلك الرحلات كانت قد توقفت لأسباب مالية، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في بدايات عقد التسعينات من القرن الماضي. إلى ذلك أعلنت روسيا أيضاً أنها تنوي تطوير جيل جديد من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وأنها ستستأنف برنامجها الفضائي استعداداً لإرسال رواد فضاء روس إلى القمر بحلول عام 2012، ومن ثم تأسيس قاعدة على سطحه، كما ألمحت إلى أنها تنوي أيضاً إرسال رحلة فضائية إلى المريخ بعد عام 2025. وفي ساحة العلاقات الدولية أيضاً تتخذ روسيا مواقف تزداد صرامة على الدوام تجاه المبادرات السياسية الغربية. فهي، على سبيل المثال، تعارض بقوة الجهود التي تقوم بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الأمم المتحدة، للدفع باتجاه حصول كوسوفو على استقلالها عن صربيا... كما أنها تبنت رد فعل حاداً للغاية تجاه الجهود الأميركية الرامية لنشر منظومة صواريخ باليستية دفاعية في أوروبا الشرقية لحمايتها ضد أي هجوم صاروخي تقول إن إيران قد تشنه عليها مستقبلاً.. كما استفادت من سيطرتها على إمدادات الطاقة وخطوط الأنابيب للضغط على جيرانها المتذمرين، وبالذات الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، مثل أوكرانيا وجورجيا وتركمانستان. ولم تكتف روسيا بذلك، بل استغلت إمداداتِها من الغاز لأوروبا سياسياً وذلك عندما سعت إلى إنشاء ترتيبات ثنائية مع كل دولة على حدة بشأن توريد الغاز بدلاً من التفاوض مع الاتحاد الأوروبي ككتلة دول مجتمعة. وقد أدى هذا التكتيك إلى إحداث ضرر في العلاقات بين بعض الدول داخل الاتحاد الأوروبي، مثل ألمانيا وبولندا، وخصوصاً بعد أن أعلنت روسيا إنشاء خط أنابيب لنقل الغاز يصل مباشرة إلى ألمانيا دون المرور على بولندا، وذلك من خلال مد خطوط نقله تحت بحر البلطيق. وهناك كلمتان تلخصان الصعود الروسي الجديد هما: المال والمشاعر القومية. فقطاع الطاقة الروسي يزدهر بسبب ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، وهو ما أدى إلى تدفق أموال هائلة على الخزينة الروسية، ساهمت بدورها في تعزيز ثقة القيادة الروسية بنفسها، كما وفرت فرصاً هائلة لازدهار طبقة رجال المال والمليونيرات. ولكي ندرك ذلك، يكفي أن نعرف أن موسكو في الوقت الراهن، أصبحت تضم عدداً من المليونيرات يفوق أي مدينة أخرى في العالم، كما نشأت فيها طبقة متوسطة ثرية متلهفة إلى إنفاق النقود والسفر للخارج للسياحة. لكن الشيء الذي يفوق ذلك في الأهمية بالنسبة للرئيس بوتين وجيله من الروس، هو القدرة الجديدة التي توافرت لهم لإبراز العضلات الروسية ومحو الذكريات المؤلمة للعقدين الماضيين اللذين تعرضت فيهما روسيا لمهانة بالغة. ومما يذكر في هذا السياق أن بوتين كان ضابطاً في فرع جهاز الاستخبارات السوفييتي السابق (كي جي بي) في ألمانيا الشرقية في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وشاهد بنفسه التأثير المروع لسقوط حائط برلين، وانسحاب القوات السوفييتية من ألمانيا الشرقية، على الروح المعنوية للروس. بعد ذلك تحمل الروس عبء السنوات الأخيرة من حكم ميخائيل جورباتشوف والتي انتهت بشيء لم يكن أحد يتصوره، ألا وهو تفكك الكيان السوفييتي ذاته وخلق 14 دولة مستقلة حول حدود روسيا. تلا ذلك حدوث حالة من الفوضى العارمة والتحلل سادت روسيا خلال سنوات بوريس يلتسين، والذي حوّل روسيا إلى دولة مثيرة للشفقة، وجعل العالم يتعامل معها على أنها حالة من حالات الدول المستحقة للمساعدة. وعلى الرغم من أن يلتسين قد نجح في تطهير روسيا من بقايا وزوائد الشيوعية، إلا أنه أغرقها في عصر جديد من الفساد وانعدام الأمن، الأمر الذي أدى إلى تدني المستوى المعيشي لدى المواطن الروسي العادي، وإلى تكالب الهموم الحياتية عليه وافتقاده الطمأنينة نحو المستقبل. واليوم يحظى بوتين بشعبية طاغية في بلاده، باعتباره الرجل الذي نجح في استرداد كرامتها المفقودة، والذي ساهمت سياساته الاقتصادية في تحسين مستوى معيشة الفرد الروسي وجعلته أكثر اطمئناناً نحو غده. صحيح أن روسيا لا تزال تعاني من مشكلات اجتماعية مزمنة؛ مثل زيادة نسبة كبار السن في المجتمع، وتدني المستوى الصحي لدرجة أن متوسط العمر المتوقع للروس يعد هو الأدنى في العالم الصناعي. علاوة على ذلك نجد أن المؤسساتِ الروسيةَ لا تزال هشة، وأن العديد من الحريات التي ظهرت فيها خلال عهد ما بعد الشيوعية قد تم تقييدها، كما لا يزال الكرملين يحتفظ بقبضة قوية على الإرسال التلفزيوني وعلى الصحافة المطبوعة، ويخضعهما معاً لضغط متزايد للحيلولة دون انتقاد الحكومة، كما لا يزال الفساد مستشرياً والنظام القضائي ليس على ما يرام. وعلى الرغم من ضعفها الداخلي، إلا أن روسيا تحولت إلى فاعل رئيسي على المسرح الدولي. وكان بوتين قد أعلن فيما سبق إصراره على ترك الكرملين عندما تنتهي فترة رئاسته الثانية في الربيع القادم... وعلى ما يبدو فإن الرجل مصمم على أن يترك من ورائه إرثاً يضمن له مكانة مقدرة في التاريخ الروسي. ولو تمكن خلفاؤه من تفعيل الإصلاحات المهمة، وإعادة تعزيز الحريات التي كان الروس قد كسبوها أيام يلتسين، فإن إرث بوتين سيكون في هذه الحالة إرثاً طيباً... أما إذا ما تزايد الفساد والقمع في عهدهم وخبت الحريات المدنية، فإن الحقبة الحالية ستكون موضعاً لتقييمات ومراجعات أخرى!