في النهاية قد لا يكون وزير الخارجية الفرنسي تحدث عن تمنياته عندما أشار إلى "الحرب على إيران"، وإنما قد يكون نطق بما هُمس إليه. طبعاً، هناك أسباب كثيرة دفعت "برنار كوشنر" إلى تصريحاته تلك، قبل أن يحاول نفيها ثم بلعها، لكن الأهم أنه قد يكون أخطأ بكشف وجود حديث عن حرب في مكان ما، ولأنه ليس دبلوماسياً محترفاً فقد كان ما كان. وبمقدار ما استحق السخرية والانتقادات، بمقدار ما يستحق ألا ننسى زلة لسانه، وألا ننسى أيضاً أين أمضى رئيسه نيكولا ساركوزي عطلته الصيفية، في الولايات المتحدة، حيث أتيح له أن يتداول طويلاً مع الرئيس جورج بوش في مختلف القضايا الدولية، وبالأخص الأزمة المفتوحة مع إيران. هذا يعيد إلى الأذهان بدايات التحضير للحرب على العراق، إذ كان رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير المسؤول الأول غير الأميركي الذي أسر إليه بوش بأنه قرر فعلاً الذهاب إلى الحرب. ولأن الثنائي بوش- بلير شكل تحالفاً نموذجياً فإن "السرّ" استطاع أن يصمد إلى ما بعد الحرب- ثم تكفلت التسريبات بإلقاء الأضواء الإعلامية عليه. ولم يعد سراً أن ساركوزي يتحرك بعزم لاحتلال مكان بلير ومكانته في فلك التحالفات البوشية، وعندما التقى مع بوش خلال الصيف كان الأخير التقى قبل فترة رئيس الوزراء البريطاني الجديد جوردون براون، الذي حاول أن يكون غاية في الوضوح بأنه لن يكون نسخة طبق الأصل عن سلفه بلير في اقتفاء أثر الرئيس الأميركي والسير على خطاه. وهكذا برزت الحاجة إلى ساركوزي، الذي كان كثف الإشارات إلى كونه بكامل الجهوزية. لكن الظروف تختلف، تحديداً لأن إيران ليست العراق، كما اعتاد المحللون أن يقولوا. فالحديث لا يزال عن "ضربة" من الخارج، وليس عن غزو واحتلال، كما أصبح معروفاً. ما يعني أن أميركا لن تحتاج إلى حشد حلفاء للمشاركة في المجهود الحربي، بل تحتاج إلى دبلوماسية مساندة، وإلى مساهمات محدودة لمواجهة تداعيات الضربة. الواضح، حالياً، أن الحكومات المعنية مباشرة، أو غير المعنية، لم تعد تتعامل مع ضرب إيران على أنه ضرب من الفوازير. وباتت تميل إلى الاعتقاد بأن بوش لن يترك لخلفه في البيت الأبيض الملف الإيراني على حاله الراهنة، يتساوى في ذلك أن يكون الرئيس المقبل "جمهورياً" أو "ديمقراطياً". فالأمر يتعلق بـ "النظام الأميركي" وأيديولوجيته أكثر مما يتعلق بأزمة دولية يمكن اللعب فيها على عنصر الوقت أو على الظروف. ثم أن الورطة الأميركية في العراق باتت تحتم القيام بعمل يؤمن للجنود هناك أوضاعاً أقل خطورة. على رغم الاختلاف في وجهات النظر، خصوصاً بين الدول الكبرى، فإن جرعات العقوبات لإيران استطاعت أن تبني مناخاً دولياً متفهماً للولايات المتحدة، تحديداً لأن طهران واصلت رفض الانصياع لمطلب وقف تخصيب اليورانيوم وتطوير برنامجها لإنتاج الطاقة النووية، كما أنها لا تزال مصرة على دبلوماسيتها السلبية والأداء الملتبس الذي ينتهجه رئيسها. هذا لا يعني أن واشنطن باتت تحظى بتأييد لأي عمل عسكري تعتزمه، إلا أنها استفادت إلى حد كبير من التعنت الإيراني. ويأتي بعدئذ ما أحدثته التطورات العراقية من انعكاسات تدعم توجه الإدارة الأميركية لمحاسبة إيران على ما فعلته في العراق، وإذا كانت هناك حاجة إلى مزيد من الذرائع، فإن "الخطر الإيراني على إسرائيل" كفيل بأن يقوي موقف بوش حتى أمام كونجرس مناوئ. هناك تغييرات في المزاج الأميركي بدأت انطلاقتها مع شهادتي الجنرال ديفيد بيترايوس والسفير رايان كروكر، وقد بقيت منهما جملة استنتاجات ولو غير دقيقة ومؤكدة، أهمها: الخطة بدأت تثمر خفضاً للعنف في العراق، وخفض عدد القوات ممكن في مواعيد محددة، الجهة الأكثر دعما للإرهاب هناك هي إيران، ولا مجال للحديث عن انسحاب أميركي لأن الانسحاب يعني أن تتقدم إيران نفسها لتملأ الفراغ... وهكذا، لم يعد بوش بحاجة إلى رؤية استطلاعات الرأي مسجلة ارتفاعاً ولو طفيفاً في شعبيته، وإنما يريد أن تخف الضغوط على إدارته سواء من الكونجرس أو من الرأي العام. ولأجل ذلك يتحرك عدد من أعضاء مجلس الشيوخ، ومنهم جوزيف ليبرمان وجون ماكين، للمساعدة بالعزف على الوتر الحساس. إنهم مهتمون بالجنود الأميركيين في العراق، وطالما أن إيران مُتهمة بتوفير الدعم لمن يهاجم هؤلاء الجنود، فهذا سبب كاف لمهاجمتها وردعها، فالأمر يتعلق بسلامة الجنود، وهذا يحظى بتعاطف أكيد من الرأي العام. وهكذا ينزلق البحث من استراتيجية الانسحاب الذي لم يكن منه مفر، إلى استراتيجية البقاء الذي تفرضه الضرورة، ومن أجل البقاء في العراق لابد من تحييد النفوذ الإيراني، لكن كيف؟ ليس هناك أكثر وضوحاً من أن الولايات المتحدة باتت مسلحة بأكثر من حجة كفيلة بأن تبرر، للأميركيين وليس للعالم، خيار العمل العسكري، إذ أن الخطر النووي الإيراني ليس وشيكاً، أما استراتيجية الانتهاك الإيرانية للأميركيين في العراق فتجاوزت كل حد مقبول في واشنطن. ولكي تكتمل الصورة صوت أعضاء مجلس الشيوخ لمصلحة قرار غير ملزم للإدارة يقضي باعتماد خطة لتقسيم العراق، ظاهرها التمهيد للانسحاب وباطنها تأمين بقاء مريح وغير مكلف في العراق. هذا القرار، ولو أنه غير ملزم يبقي الخيارات مفتوحة أمام الإدارة.