حقاً لقد مرت منطقة المغرب العربي بفترات طويلة من الصراع مع إسبانيا منذ خروج المسلمين من الأندلس، وبقيت آثار هذا التاريخ المشترك تلقي بظلالها على العلاقات المعاصرة بين الطرفين، إذ لا تزال بعض القضايا الشائكة عالقة بينهما، لا سيما مدينتا سبتة ومليلية اللتان تقعان في شمال المغرب. ففي الآونة الأخيرة تفجرت قضية سبتة ومليلية بين المملكة المغربية والمملكة الإسبانية بالإعلان عن زيارة سيقوم بها ملك إسبانيا لأول مرة منذ اعتلائه العرش الإسباني إلى المدينتين، مما حدا بالمملكة المغربية استدعاء سفيرها بإسبانيا للتشاور، مما يعكس خلافاً كبيراً بين الطرفين. وتعود خلفية الصراع بين إسبانيا والمملكة المغربية بشكل خاص على المدينتين والجزر التابعة لهما إلى الماضي القديم. وقد تميزت مدينة سبتة بكونها محطة بارزة الأدوار بين منطقتي الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي وما وراء المحيط، فهي حلقة وصل بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط الجنوبية المغربية والشمالية الأوروبية، وهي جوهرة المغرب والشمال الأفريقي كأنها مدينة الإسكندرية. وكانت المدينة محط أنظار الدول الأجنبية منذ القدم، فهناك من تسابق لربط علاقات الود والصداقة والعلاقات التجارية وهناك من سعى لاحتلالها لأهميتها. وتمثل مدينة سبتة مكانة علمية وحضارية وعمرانية في الحضارة العربية الإسلامية، وكان بروزها في القرن الخامس الهجري مع ظهور الدولة المرابطية التي وحدت المغرب والأندلس وساهمت في توسيع الصلات العلمية. وكانت سبتة قبل الاحتلال مدينة الثقافة والفنون والصناعة والتجارة وملتقى للقادمين من المشرق إلى المغرب والأندلس. لكن خيوط الاحتلال في البلاط البرتغالي لغزو المدينة بدأت ما بين 1409 و1415 وتم الغزو في 1415 ثم آلت إلى إسبانيا بعد أن استولت هذه الأخيرة على البرتغال، وبقيت كذلك إلى يومنا هذا رغم خروج البرتغال من السيطرة الإسبانية. أما مليلية، فكان احتلالها قد بدأ في مشروع الثأر من المدينة التي نزل فيها أبو عبدالله آخر ملوك غرناطة. غير أن إسبانيا غيرت وجهتها بسبب بعض المشكلات والتطورات التي واجهتها ومنها الخطر العثماني بالبحر الأبيض المتوسط واكتشاف أميركا والمشكلات الاقتصادية الناتجة عن طرد اليهود من الأندلس والنزاع مع فرنسا. كما أن مجيء المسلمين من الأندلس والاستقرار على شواطئ المغرب المتوسطية شكل جبهة من الخطر على قدوم إسبانيا ونزولها إلى المغرب، وهنا تكفل أحد النبلاء الإسبان وهو دوق "مردنيا سيدونبا" بمهمة احتلال مليلية وتمكن من ذلك سنة 1497 ولم يسلمها إلى التاج الإسباني إلا سنة 1556. لقد مر الصراع على سبتة ومليلية والجزر التابعة لهما في العصر الحديث والمعاصر في أخذ ورد ومجادلات وحجج تاريخية، فإسبانيا تدعي أن المغرب دولة ظهرت حديثاً بعد ما كانت إسبانيا تحكم سبتة ومليلية، والطرف المغربي يرد على هذه الحجة بأن المغرب دولة ذات سيادة وسلطان منذ أن أسس المولى إدريس الأول المملكة المغربية الإسلامية سنة 788 ميلادي قبل أن تصبح إسبانيا نفسها دولة معترفاً بها بين الدول بأكثر من 700 سنة. وتقوم إسبانيا بتوظيف العامل الزمني وحق التقادم المُكسِب وذلك لتكريس الضم النهائي للمدينتين، وتعمل على شيوع مقولة إنه لا توجد مشكلة بين المغرب وإسبانيا، وأن سبتة ومليلية شأن داخلي إسباني ولهما تمثيل في البرلمان الإسباني. وفي المقابل يحرص المغرب على عدم إضفاء أي شرعية على الاحتلال الإسباني لسبتة ومليلية ويؤكد في المحافل الدولية بأن سبتة ومليلية جزء لا يتجزأ من التراب المغربي وأن حقوق المغرب لا تسقط بالتقادم ولا تقبل التأجيل، فمنذ عام 1960 والمغرب يقدم طلباً رسمياً إلى الأمم المتحدة للمطالبة باستعادة المدينتين ويرى المغرب أن المدينتين والجزر تحت احتلال عسكري محض، كما أن المغرب تقدم في عام 1975 بمذكرة إلى لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة طلب فيها إدراج مدينتي سبتة ومليلية ضمن قائمة الأراضي التي يجب تصفية الاستعمار منها، بينما تقدمت إسبانيا بمذكرة شرحت موقفها التاريخي والقانوني بشأن هذه القضية، إلا أن مجلس الأمن طالب الدولتين المعنيتين بتطبيق المادة 82 من ميثاق الأمم المتحدة التي تدعو إلى تسوية الخلافات الثنائية عن طريق الحوار. وقد ارتبط الصراع بين المغرب وإسبانيا بملف جبل طارق، فهذا الأخير تحتله بريطانيا منذ 1704، وما زالت إلى اليوم. وذهب التحرك المغربي إلى هذا الملف حيث تناوله الملك الحسن الثاني مع بريطانيا في يوليو 1987 وأوضح بأن التنازل لإسبانيا عن جبل طارق يسهل التنازل الإسباني عن المدينتين والجزر التي تحتلها في الشمال المغربي. ويرفض الجانب الإسباني الربط بين جبل طارق وقضية سبتة ومليلية والجزر التابعة لها. وتشمل أبرز نقاط وأحداث الصراع في هذا الشأن، أحداث أبريل 1990 ويتجلى ذلك في قرار الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، وتحت ضغوط العناصر اليمينية المتشددة، منح سبتة ومليلية صيغة الحكم الذاتي تجسيداً لما نص عليه ميثاق الاستقلال من أن هذه المناطق جزء لا يتجزأ من الوطن الإسباني وعنصر من عناصر وحدة إسبانيا، وكان الهدف الرئيسي هو سعي مدريد إلى إضفاء الشرعية على اغتصاب المدينتين المغربيتين. وتفجرت قضية سبته ومليلية في 1995 كما هي اليوم عندما صادق البرلمان الإسباني على قرار لا يتضمن إقامة برلمان مستقل بل جمعية ومجلساً للحكومة ورئيساً، ولا يمنح المدينتين صفة الحكم الذاتي الذي يجعلهما تتصرفان في شؤونهما باستقلال شبه تام عن الحكومة المركزية، حيث تم حذف صلاحيات التشريع وحق الطعن في القوانين الدستورية خلافاً لما هو مطبق على كتالونيا والأندلس وإقليم الباسك، كما نزع من السكان المغاربة الأصليين أي حق للمشاركة في الإدارة الذاتية إلا وفق شروط يتحول بها المغاربة إلى إسبان من الناحية القانونية ويتم اختيارهم عبر الدوائر الإسبانية في المدينتين. وتم إصدار قانون إقامة الأجانب في الأراضي الإسبانية وهو نوع من نزع صفة المواطن المغربي في المدينتين وتحويله إلى أجنبي عبر إذن إقامة كل خمس سنوات. وفي منتصف عام 1998 عمدت السلطات الإسبانية إلى تطوير معابر مدينتي سبتة ومليلية بإقامة حاجز فولاذي مزدوج كحزام أمني يطوق المدينتين بدعوى منع الهجرة غير المشروعة، مما حدا ببعضهم إلى تشبيهه بجدار برلين، وربما كان ملهما لإسرائيل لبناء الجدار العازل لتفتيت فلسطين. كما أن إسبانيا اعتمدت نظام البطاقة الخاصة بالدخول والخروج، وقامت بتكثيف وجود الجيش الإسباني المزود بأحدث الأسلحة الهجومية والدفاعية بما يفوق حججها في متطلبات مواجهة تسلل المهاجرين غير الشرعيين. وتبقى قضية المدينتين والجزر التابعة لهما حلقة صراع بين المغرب وإسبانيا مع حلقات الصراع حول قضية الصحراء الغربية والموارد والحدود البحرية. وكما تزداد تعقيداً في ترجيح ميزان القوى الاقتصادية والعسكرية والسياسية لصالح المملكة الإسبانية. وبالنظر إلى المملكة الإسبانية عبر حكوماتها المختلفة نتوصل إلى نتيجة بأن هناك قضايا تتشابه وتختلف فيها الحكومة اليمينية مع الحكومة الاشتراكية، فالأخيرة مع جبهة البوليساريو وتساند القضية الفلسطينية بوضع دولة بجوار إسرائيل وبتفضيل الدور الإسباني عبر أوروبا وليس الولايات المتحدة على عكس الحكومة "اليمينية"، أما التشابه بين الحكومتين فيتضح في قضية سبتة ومليلية والموارد البحرية، فالظاهر بأن المدينتين المحتلتين تمثلان خاصية إسبانية من الجانب القومي التاريخي، وهي الحفاظ على رمز من رموز العودة الإسبانية وطرد المسلمين، ولذلك فالاحتفاظ بهما ربما يكون ذا دلالة حضارية تاريخية أكثر من كونه حقا قانونياً وتاريخياً مكتسباً. وهكذا تبقى المدينتان جرحا آخر غائراً في الجسد العربي الممزَّق يُذَكِّرنا دوما بما ضاع أمس وما يضيع اليوم، وعندما نقرأ الواقع في رموز الهزيمة لا نجد من قولٍ سوى ما أشبه اليوم بالبارحة...