لم تتمكن زعيمة المعارضة الباكستانية بينظير بوتو، من البقاء لاستكمال حملتها الانتخابية، الرامية إلى تحقيق الديمقراطية في بلادها. لكن وبعد رحيلها، ربما تعجز باكستان نفسها عن البقاء. ولفهم الأزمة العميقة التي تمر بها إسلام أباد اليوم، لا بد للأميركيين من أن يتجاوزوا ما اعتادوا عليه دائماً من النظر إلى باكستان من منظورهم الخاص، أي أنها حليفنا الأول في حربنا على الإرهاب الدولي، وأنها قوة نووية منافسة لجارتها الهند. فباكستان في نظر الباكستانيين أنفسهم، لا تكون إلا من زاوية الانتماء العرقي والجغرافي. وتعد بينظير بوتو السياسية الوحيدة التي تتمتع بشعبية كبيرة في محافظة البنجاب الأكثر كثافة سكانية في البلاد، إلى جانب شعبيتها في محافظة السند مسقط رأسها، التي تحتل المرتبة الثانية من حيث الكثافة السكانية في باكستان. وبينما يتباهى الجيش الباكستاني بأنه حامي الوطن وخط دفاعه الوحيد – وهو تباه غالباً ما قصد منه تبرير هيمنة الجنرالات العسكريين على مقاليد الحكم في البلاد- إلا أن الحقيقة هي أنها ليست مؤسسة قومية، وأن نسبة 90 في المئة من ضباط الجيش الباكستاني ينتمون لمحافظة البنجاب تاريخياً، إلى جانب أقلية ضئيلة من محافظة السند. لذلك فإن الحكم العسكري بالنسبة للكثيرين من مواطني السند، لا يعني شيئاً آخر سوى حكم البنجاب للبلاد. وعلى إثر رحيل بوتو، فربما يشعر الكثير من أتباعها ومؤيديها المخلصين، بعدم رغبتهم في البقاء في باكستان. ويضيف هذا البعد العرقي عاملاً آخر للقلق إلى بلد تتنازعه الخلافات سلفاً، بين قوى التحول الديمقراطي من جهة، وقوى التطرف الناشئة، وقوى عسكرية تواصل تشبثها بكراسي الحكم من جهة أخرى، إضافة إلى تنامي ظاهرة الإرهاب الأصولي فيه اليوم، أكثر من أي مكان آخر في الكرة الأرضية. وأثناء متابعتي للبث التلفزيوني الذي لا يتوقف لرحيل صديقتي "بينظير بوتو"، خطرت إلى ذاكرتي ومضات الأمل التي أشاعتها في شعبها عند انتخابها رئيسة لوزراء بلادها للمرة الأولى في السادس عشر من نوفمبر عام 1988. وكنت ضيفاً لديها بمنزلها العائلي في لاركانا خلال تلك الانتخابات. ثم سبق لي أن التقيتها لعدة ساعات، عقب توليها منصب رئاسة الوزراء، عندما كنت عضواً بلجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس "الشيوخ". وهي لا شك تتحمل بعض المسؤولية إزاء الإخفاقات التي صحبت حكومتها تلك، خاصة وأنها تولت ذلك المنصب، وهي في عمر الخامسة والثلاثين، حيث كانت تفتقر إلى الكثير من الخبرة السياسية الكافية للتصدي لواجبات المنصب الذي شغلته. وقد تسبب هذا العامل الأخير، في خوضها لسلسلة من المعارك السياسية التي لم يكن ثمة داع لها. غير أن الإخفاقات المنسوبة إليها، وصولاً إلى موتها الحالي، إنما يعكسان حقيقة دولة لم توفق حتى الآن في إنجاح تجربتها السياسية. يذكر أن النصر الانتخابي الذي حققته "بينظير"، قد أعقب مصرع الجنرال محمد ضياء الحق، الطاغية السابق، الذي أطاح بوالدها ذي الفقار على بوتو، الذي تولى منصب رئاسة الوزراء عبر انتخابات حرة ديمقراطية، في حادث تحطم طائرة في أغسطس من عام 1988. وعلى إثر رحيل ضياء الحق، حاولت المؤسسة العسكرية الحاكمة، تجريب النظام الديمقراطي، غير أنها كانت تأمل في ألا يكون الفوز في الانتخابات من نصيب حزب "الشعب" الباكستاني، الذي تقوده "بينظير"، إلا أنه جاء من نصيبها بالفعل. ومهما تكن المآخذ على فترتي توليها لمنصب رئاسة الوزراء، إلا أنها كانت تدرك جيداً أنه لا سبيل لتحقيق الديمقراطية في بلادها، ما لم يتم إخضاع الجيش الباكستاني للمؤسسة المدنية. ويعني هذا الوعي، أنها كانت تهدف إلى وقف الجنرالات العسكريين عن استخدام ذريعة التهديد الأمني الهندي للبلاد، في السيطرة على الميزانية الوطنية، وتمرير أجندتهم السياسية الخاصة. ولكنها كانت تعي في الوقت نفسه، أن التوصل إلى صفقة سلام مع الهند، وكذلك لمقاومة تنامي نفوذ الحركات الإسلامية الأصولية في بلادها، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، فإنها لا غنى لها عن وقوف المؤسسة العسكرية إلى جانبها. وهذا هو ما دفعها إلى إبرام صفقة سياسية بينها والجنرال برويز مشرف، للحفاظ على التوازن المطلوب بين المؤسستين العسكرية والمدنية في البلاد، على رغم الانتقادات الحادة التي وجهت إليها من قبل حزبها نفسه. وكانت تأمل في بناء تحالف سياسي من المعتدلين، حتى تتمكن من الفوز بمنصب رئيس الوزراء، فعلياً وليس اسمياً فحسب. غير أن هذا الأمل قد تحطم بإعلان حالة الطوارئ في البلاد أولاً، ثم باغتيالها مؤخراً. باكستان لم تتمكن مطلقاً من بناء مؤسسات حكم فاعلة فيها، طوال العقود الستة التي مرت من تاريخها الحديث، وبالنتيجة لم ترسخ فيها تجربة الحكم الديمقراطي، كما عجزت عن تشكيل هويتها الوطنية. واليوم تسيطر على أهم القرارات والسياسات الباكستانية، ثلاث جهات هي: الجيش وذراعه الاستخباراتي العسكري، ووكالة الخدمات الاستخباراتية المشتركة، ثم المؤسسة النووية. وليس لأي من هذه الجهات الثلاث، علاقات طيبة مع الولايات المتحدة الأميركية. بل يعتقد أن وكالة الخدمات الاستخباراتية المشتركة، تدعم سراً حركة "طالبان" في الجارة أفغانستان، بينما لا يستبعد أن تكون لها علاقات مع تنظيم "القاعدة". أما المؤسسة النووية، فقد تبادلت تكنولوجيا صنع القنبلة النووية مع ألد أعداء أميركا: إيران وكوريا الشمالية وليبيا. وعلى رغم إصرار برويز مشرف وتأكيده لكونه شريكاً يعتمد عليه للولايات المتحدة في حربها على الإرهاب الدولي، إلا أنه يصعب تخيل أن تكون ممارسات كل من وكالة الخدمات الاستخباراتية المشتركة، والمؤسسة النووية في بلاده بعيدة عن علمه وموافقته. والذي لا بد من تأكيده على أية حال، أن الولايات المتحدة الأميركية ليست هي المسؤولة عن المشكلات التي تواجهها باكستان. غير أنه ينبغي لواشنطن أن تطالب بإجراء تحقيق دولي مستقل في مصرع بينظير بوتو، طالما أنه يصعب التعويل على الحكومة الباكستانية القائمة، في إجراء تحقيق نزيه في هذه المأساة. كما ينبغي للرئيس بوش أن يحسن اختيار الألفاظ التي يتحدث بها عن شراكته مع باكستان، وأن يغير لهجته التي يصف بها شريكه الباكستاني بصفة خاصة، بأنه رجل على قدر كلمته. فمثل هذه اللغة لا تصلح لوصف دولة فاشلة تحوز على ما لا يقل عن 70 قنبلة نووية، دون وجود مسؤولية حكومية كاملة عنها فيما يبدو. وبرحيل بوتو، فليس ثمة أمل يلوح في سماء هذه الدولة. بيتر جالبريث ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سفير أميركي سابق بكرواتيا ومؤلف كتاب "نهاية العراق". ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"