لقد أصبح اعتقاداً سائداً لدى "الديمقراطيين"، بل حتى لدى بعض "الجمهوريين" أن الحرب في العراق لم تؤدِّ سوى إلى حشد المزيد من المقاتلين الإسلامويين واتفاقهم على محاربة أميركا. لكن إلى أي مدى يمكن لهذا الاعتقاد أن يكون صحيحاً؟ في الواقع أرى أنه بعيد كل البعد عن الصحة. فالمقاتلون الإسلامويون ينتمون إلى مشارب متنوعة، وطبقاً لذلك تختلف ردة فعلهم حسب القضايا الساخنة التي تشغل الحركات الإسلامية الراديكالية في الوقت الحالي. وهكذا يتعامل بعض الأصوليين المتشددين مع ما يعتبرونه هجمة غربية متصاعدة، معتبرين ذلك القضية المحورية الأولى التي يتعين الرد عليها. ويرى البعض الآخر أن القضية الأهم تكمن في التضييق الذي يلاقيه الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين في أوروبا. أما بالنسبة لفريق ثالث فإن القضية المحورية تكمن في الحرب في العراق وأفغانستان، فضلاً عن مساندة الولايات المتحدة لأنظمة استبدادية بالمنطقة، والمقاومة الفلسطينية التي تصهر مختلف الضغوط والتوترات في بوتقة واحدة وتحولها إلى حرب دينية مقدسة. هذه التعقيدات وغيرها هي ما يفسر، في جزء منه على الأقل، لماذا يلجأ العديد من الغربيين، في بحثهم عن إجابة، إلى التفسيرات المألوفة المحفزة لـ"الجهادية" (مثل الحرب في العراق والصراع العربي -الإسرائيلي)، لكنها تفسيرات لا تنفذ إلى عمق التاريخ الإسلامي ولا تفهم المخيلة الجماعية للمقاتلين الإسلامويين. وفي هذا الإطار فإنه عندما نتأمل الحربين في العراق وأفغانستان تبرز حقيقتان اثنتان، تتمثل الأولى في ذلك الاختلاف اللافت بين الحرب الأفغانية -السوفييتية ما بين العامين 1979- 1989 التي شهدت مولد "القاعدة"، وبين الحرب في بلاد الرافدين التي لم تستقطب سوى أعداد قليلة من المقاتلين منذ الغزو الأميركي في عام 2003. وبرغم أننا لا نملك أرقاماً دقيقة عن المشاركين في كلتا الحربين، إلا أن رقم 25 ألف مجاهد يبدو مقبولاً بالنسبة للذين ذهبوا إلى باكستان لمحاربة الجيش الأحمر. وأغلب الظن أن الجزء الأكبر من المقاتلين توجهوا إلى أفغانستان خلال السنوات الأربع الأخيرة عندما تطورت وسائل التجنيد والاستقبال. لكن في العراق لم نرَ شيئاً بهذا الحجم، رغم أن العراق يقع في قلب العالم العربي ويحتل موقعاً مميزاً في التاريخ الإسلامي. والأكثر من ذلك كان من السهل على العرب الدخول إلى العراق والاندماج بيُسر في المجتمع بسبب اللغة الواحدة والثقافة المشتركة التي تجمعهم، ناهيك عن الهدف ذاته الذي يوحدهم والمتمثل في كرههم الشديد للولايات المتحدة وعدائهم المستحكم لها. وبرغم كل هذه التسهيلات تفيد تقديرات الجيش والاستخبارات الأميركيين أن عدد الذين شدوا الرحال من السُّنة العرب إلى العراق لمقاتلة الأميركيين لا يتعدى في مجمل الأحوال بضع مئات، حتى عندما بلغ التمرد ذروته بين 2006 و2007. فبينما شهدت ثمانينات القرن الماضي إسهاماً مكثفاً لجماعة "الإخوان المسلمين" في عملية تنظيم الجهاد الإسلامي ضد السوفييت، إلا أنها في حرب العراق وقفت جانباً ولم تشارك في التجنيد. ولعل اللافت أكثر هو انعدام الحماس لدى السعوديين الذين شاركوا بكثافة في الحرب ضد السوفييت، ولم نرَ تلك الألوف المؤلفة من الشباب تذهب إلى العراق كما كان الحال عليه في أفغانستان. ومع أن التيار الأصولي اليوم أقوى ميدانياً في البلدان العربية، وأكثر تغلغلاً في بعض المجتمعات مما كان عليه في الثمانينات، إلا أن التزامه بمساعدة التمرد العربي السُّني في العراق يبهت بالمقارنة مع مساندته للسُّنة الأفغان. أما الحقيقة الثانية التي تثير انتباهنا لدى تأمل "الجهادية الإسلامية" في العراق، فهي الأثر العكسي الذي يمارسه المقاتلون الأجانب على السكان المحليين. فبينما كان المجاهدون في أفغانستان يزرعون بذور الراديكالية في المجتمع، لم يفلح المقاتلون الإسلامويون في استمالة الشعب العراقي ودفعه إلى الراديكالية. فخلال الحرب ضد السوفييت في أفغانستان وصل العديد من العرب إلى البلاد وهم يحملون معهم الأصولية المتطرفة التي ازدهرت في بلدانهم خلال سنوات الستينات والسبعينات بعد أفول نجم القومية العربية. لكن في العراق، كما تبين مع مجالس الصحوة السُّنية المناهضة لتنظيم "القاعدة"، بدأ التشدد السُّني يفقد زخمه ويرجع القهقرى. والأكثر من ذلك كان للأساليب العنيفة التي اتبعها المتشددون ضد الشيعة في العراق، وتحدث متمردون سُنة سابقون عن دور أميركي إيجابي أثر بشكل كبير في خلخلة بعض أسس الفكر المتشدد في العام العربي. ومع أنه من السابق لأوانه إعلان التراجع الكلي لخطر تنظيم "القاعدة" وزوال تأثيرهما في أوساط العرب والمسلمين، إلا أنه لا يمكن إنكار الخسائر الفادحة التي تكبدها بسبب الحرب في العراق. ولاشك أن النقص في عدد المجندين الذين كانت توفرهم في السابق بعض جماعات الإسلام السياسي يعكس في جزء كبير منه الشعور بعدم الارتياح إزاء العنف الأهوج لـ"القاعدة"، فضلاً عن اعتراف ضمني بتعقد الوضع السياسي في العراق والدور غير السلبي تماماً الذي تقوم به الولايات المتحدة في بلاد الرافدين. ولئن كانت ظاهرة "القاعدة" إلى تراجع وانحسار، وقد يكون الأمر فعلاً كذلك بين العرب، فإن ذلك يرجع أساساً إلى العراق الذي أضر بالتأثير الروحي الذي كان يمارسه التنظيم في السابق. وبالطبع مازال العراق في وارد الانهيار والانقسام، لاسيما إذا شرع الرئيس الأميركي في سحب القوات الأميركية، بحيث ستؤدي الفوضى إلى تجدد أعمال العنف الطائفي وعودة التشدد الإسلاموي. لكن المؤكد أن العراق قد يتحول في القريب العاجل إلى ساحة تسجل انتصار الولايات المتحدة على "أسامة بن لادن" و"القاعدة" وكل الإسلامويين المتطرفين الذين يعتقدون أن ارتكاب العنف ضد أميركا عمل "مقدس". ـــــــــــ زميل في معهد "أميركان إنتربرايز" ومسؤول سابق في "سي. أي. إيه" ـــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"