لقد أخفق المجتمع الاستخباراتي في الولايات المتحدة الأميركية على الصعيدين المؤسسي والمهني. وهذا الإخفاق لا يرجع فقط إلى الحادي عشر من سبتمبر، أو إلى فشلنا في العثور على أسلحة الدمار الشامل العراقية، أو إلى برنامج أسلحة الدمار الشامل الإيراني المزعوم، ولا إلى القصص المرعبة عن حوادث تسليم المتهمين إلى دولهم، ولا إلى الاعتقالات وحالات الحبس غير القانوني، ولكنه يرجع لما هو أهم، وهو أننا لم نبذل جهداً كافياً لشرح ما نقوم به بشكل كامل للشعب الأميركي، وذلك من خلال شرح دورنا، والحدود التي يجب أن نعمل في إطارها، ووجهة نظرنا، فيما هو متوقع منا من قِبل الآخرين. لقد فشلنا أيضاً لأننا جعلنا من أنفسنا موضعاً للسخرية، ولأننا سمحنا بأن نكون موضعاً للوم والتقريع من قبل أناس لا يعرفوننا، ولا يحبوننا، ولا يفهموننا أو يروننا على حقيقتنا. داخل منظومة الاستخبارات، كان فشلنا، وصورتنا السلبية في أعين الآخرين يعني إحباط معنوياتنا، أما خارج هذه المنظومة فإن ذلك كان يجعل الآخرين ينظرون باستهانة إلى المهام الحرجة والشاقة التي نضطلع بها، ويسمح لهم في الوقت نفسه بإثقال كواهلنا بتوقعات زائفة وغير واقعية تماماً. وليس القصد مما أكتبه هنا توجيه أي نقد لمدير الاستخبارات القومية الحالي "مايك ماكونيل" أو لسلفه في المنصب "جون نيجروبونتي" أو لطاقم المساعدين الذي عمل مع كل واحد منهما. فهذان الرجلان بذلا- في نظري- قصارى جهدهما إذا ما أخذنا في حسباننا تلك البنية المختلة وظيفياً التي عملا من خلالها. ولكن الحقيقة الباقية مع ذلك هي أن الاستخبارات يُنظر إليها الآن على أنها مؤسسة فاشلة، وأنها قد أصبحت مُسيسة إلى حد كبير، وهو ما يلقي بظلال سلبية على مستقبلها، ويمثل مشكلة لكل الأميركيين وليس فقط لمحللي الاستخبارات من أمثالي. إن الكثيرين يرجعون مأزق الاستخبارات إلى حدثين مختلفين هما: الهجمات الإرهابية التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر، والفشل في العثور على أسلحة الدمار الشامل العراقية، بيد أن ما أود قوله هنا إن النقد الذي وجّه إلى الاستخبارات بعد الحادي عشر من سبتمبر، هو أنها فشلت في الربط بين الخيوط هو في حد ذاته نقد مهين للاستخبارات وغير دقيق، ولكنه استقر للأسف الشديد في القاموس الشعبي. وهذا يتناقض مع النقد الموجه للاستخبارات فيما يتعلق بموضوع أسلحة الدمار الشامل العراقية، وهي أنها قد ربطت بين عدد أكثر مما يجب من الخيوط. أيضا نجد أن الاستخبارات قد انتُقدت بعد الحادي عشر من سبتمبر لأنها لم تقدم التحذيرات الكافية قبل وقوع الحادث، أما في موضوع العراق فقد انتقدت لأنها قدمت عدداً أكبر مما يجب من التحذيرات. وفي الحادي عشر من سبتمبر انتقدت الاستخبارات بسبب افتقارها إلى الخيال، أما في العراق فإنها انتقدت لأنها كانت مفرطة في الخيال. وفي الحادي عشر من سبتمبر، نُظر إلى العجز عن المشاركة في الاستخبارات، على أنه يمثل مشكلة كبيرة، أما في العراق، فتعرضت الاستخبارات للوم لأنها حصلت على، وقدمت كماً أكثر مما يلزم من المعلومات، مثل التقارير المفبركة حول المعامل المتنقلة للأسلحة البيولوجية والتي حصلت عليها من منشق عراقي. هناك مفهوم سائد وهو أن الاستخبارات يجب أن تكون على صواب على طول الخط، وهو شيء غير ممكن في الواقع العملي بالطبع. إنني أفهم سبب إحباط الرأي العام من أداء الاستخبارات في الحادي عشر من سبتمبر والعراق، بيد أن ما أود قوله أن هذا الإحباط كان ممكنا تخفيفه في الحقيقة من خلال بيان ما يمكن للاستخبارات أن تقوم به، وما لا يمكن لها القيام به. إن صدمة الحادي عشر من سبتمبر، ومأزق العراق خلقا إجماعاً مباشراً على أن الاستخبارات الأميركية تعاني من خلل خطير، وإنها بحاجة إلى عملية ترميم شامل. ولجنة الحادي عشر من سبتمبر التي دفعت بقوة من أجل تعيين مدير جديد للاستخبارات القومية، ليرأس أجهزة الاستخبارات العديدة، هي أيضاً التي قدمت توصيات بخصوص الإصلاح الاستخباراتي لا علاقة منطقية لها بتقريرها النهائي، الذي استأثر بالاهتمام وبولغ في تقدير قيمته، هذا في الوقت نفسه الذي مرت فيه مرور الكرام على المشكلات الكامنة في البنية الجديدة لتلك الأجهزة. نتج عن ذلك، أن مهمة صياغة التشريع الخاص بإصلاح الاستخبارات، قد وقعت على عاتق أعضاء لجنة الشؤون الحكومية بمجلس الشيوخ الأميركي، ممن لم يكن لديهم سوى معرفة عملية محدودة بالطريقة التي تعمل بها الاستخبارات، وهو ما اضطر أعضاء كبارا في أجهزة الاستخبارات إلى عقد جلسات مطولة مع أعضاء تلك اللجنة لأحاطتهم علما بماهية هذه الأجهزة، والطريقة التي تعمل بها(وأنا هنا أتحدث من واقع تجربة شخصية). لتلافي تكرار الأخطاء القديمة، فإن عملية تحليل عمل الاستخبارات أعطيت قدراً كبيراً من الاهتمام، وتم في هذا الإطار تطبيق معايير جديدة للحرفية والنزاهة، كما تم إخضاع تقييم الاستخبارات القومية لتعديلات جوهرية. على رغم ذلك كله، فإن معدل نجاح محللي الاستخبارات بشكل عام لم يرتفع- ولن يرتفع- على الرغم من أن هذا تحديداً هو الهدف المعلن من كافة التغيرات. ولكن ما السبب الذي يدعونا للقول بأن معدل نجاح محللي الاستخبارات لن يتغير؟ السبب هو عدم وجود مساحة كافية للتحسين. إن قياس درجة التحسين يتوقف على شيئين هما: طبيعة الموضوع، والسؤال الذي يجري توجيهه. فالأجهزة الاستخباراتية يمكن أن تؤدي بشكل جيد نسبياً إذا ما كان السؤال يتعلق بما إذا كانت الصين ستصبح منافساً رئيسياً للولايات المتحدة أم لا؟ وهو ما يرجع لأن هذا السؤال مفتوح النهايات، ويعتمد على الافتراضات الجيدة، أكثر مما يعتمد على المعلومات المؤكدة. أما تحديد متى، وأين سيقع الهجوم الإرهابي التالي على الولايات المتحدة فأمر مختلف بالطبع، لأن الإجابة عنه تتطلب اختراق حلقات تنظيم "القاعدة" وعلى تحقيق طفرة كبيرة في وسائل جمع المعلومات. وأفضل ما يمكن للحكومة الأميركية تحقيقه في هذا المجال هو نوع من التحسين التدريجي، في أساليب التحليل، وهو تحسين لا يضمن أن الأمة الأميركية لن تتعرض إلى المفاجأة مرة ثانية. والضغط من أجل تجنب وقوع 11 سبتمبر أخرى هو ضغط شديد للغاية، لدرجة أن أجهزة الاستخبارات تضطر تحت هذا الضغط لبذل جهد كبير، دون أن تحقق مردودا يذكر. وحالة "تقييم الاستخبارات القومية" تقدم مثالاً نموذجياً على ذلك. فعلى الرغم من التحسين الذي طرأ على طرائق جمع المعلومات، وتحليلها واستخلاص نتائجها إلا أن ذلك لا يعني أن درجة موثوقية التحليلات الاستخبارية والتقييم الاستخباراتي نفسه ستزداد. الأكثر أهمية من ذلك، أن أيا من تلك التحسينات لن تزيد من احتمالات إقدام صناع السياسة في الفرع التنفيذي من الكونجرس على قراءة التقييم الذي يتم تقديمه عادة في مجلد ضخم. ما هي الحقيقة التي يمكن استخلاصها من ذلك؟ إن أجهزة الاستخبارات ستكون أفضل حالا بكثير، إذا ما طرحت "تقييم الاستخبارات" جانباً واتجهت بدلا من ذلك إلى وثائق أكثر سلاسة، مكتوبة بأسلوب أفضل، ومشابهة لتلك التقييمات الأكثر دقة وذكاء، واختصاراً التي تعدها الاستخبارات البريطانية والأسترالية. كما يجب علينا أيضاً، إذا ما كنا جادين حقاً في تحسين عملية تحليل المعلومات، أن نوقف نشر المنتج النهائي حتى ما يتخذ منه صورة نسخة محررة ينتهي بها المطاف إلى الظهور في صفحات الصحف. فهذا اليقين من أن التحليلات الداخلية سوف تظهر علنا في نهاية المطاف، هو الذي يخنق ذلك النوع من التحليلات الجريئة، النابضة، وغير التقليدية التي يقول الجميع بلا استثناء أنهم يريدونها. نقطة أخيرة، من المعروف أن الأداء الاستخباري عادة ما يكون رديئاً فيما يتعلق بالأحداث الكبرى مثل "بيرل هاربور"، والحادي عشر من سبتمبر، وسقوط جدار برلين، وهو ما يرجع لحقيقة أن تلك الأحداث- بحكم طبيعتها- عادة ما تكون مناقضة للحقائق أو مباغتة، والاستخبارات لا تستطيع بالطبع إلغاء عنصر المباغتة. والاستخبارات تجيد شيئاً قد يُنظر إليه البعض على أنه عادي تماماً وهو إحاطة صناع السياسة علماً بالحقائق بشكل متكرر مما يجعلهم قادرين على اتخاذ قراراتهم بقدر معقول من الثقة. وهذا ليس بالشيء القليل في حد ذاته، بيد أنه للأسف- وفي ذات الوقت- أصبح شيئاً لم يعد كثير من الناس يقدرونه- على ما يبدو. ـــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"