سببت محاولة دولة صغيرة واحدة الانضمام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية انقساما سياسيا حادا بين الدول الأعضاء الثلاثين فيها. والشائع عن هذه المنظمة هدوؤها وطابعها العام التكنوقراطي. هذا ويجب ألا يثير دهشتنا أن تكون هذه الدولة الصغيرة المعنية هي إسرائيل. كما يجب ألا يندهش أحدنا، حين يسمع أن الدولة الوحيدة المؤيدة لانضمام إسرائيل للمنظمة المشار إليها، هي الولايات المتحدة الأميركية. في المقابل فإن المعارضة كلها تنطلق من الدول الأوروبية. وفي الواقع فإن هذا الانقسام إنما يعكس مدى العمق الذي تشهده الفجوة الفاصلة بين مختلف المنظمات الدولية حول النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني.
تعتبر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، مقاصة جيدة، وذات معايير وأسس يعول عليها في مجال التنمية. وهي تعكف الآن على تحسين معايير وشروط عضويتها في سبيل إحداث توسع كبير في مجالي العضوية والنشاط. فها هي مجموعة دول المعسكر الاشتراكي السابقة التابعة للاتحاد السوفييتي، علاوة على دول كبيرة مثل الصين والهند تدق على أبوابها. ضمن هذا التدافع، فقد سعت إسرائيل في الشهر الماضي للانضمام، وتقدمت للمنظمة بطلب يفيد بهذه الرغبة. يضاف أن إسرائيل تعد دولة مؤهلة من الناحية الاقتصادية للالتحاق بالمنظمة. غير أن حالة الصمت التي سادت بين الدول الأعضاء، تعكس العجز الموارى وراء الكواليس، عن رأب الصدع الأطلسي، والانقسام الكبير بين ساحليه، حول القضية الأكثر إثارة للنزاع والجدل بين جانبي المحيط. وبسبب هذا النزاع، فإن المنظمة ليست سوى إحدى الساحات التي أضحت عرضة للضرر السياسي الجانبي، الناجم عن النزاع الشرق أوسطي.
فالمعروف أن للأوروبيين والأميركيين، منظورين مختلفين، ومواقف متباينة إزاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. والشاهد أن الشيء الوحيد الذي يوحد كلا من الأوروبيين والأميركيين في مواقفهما حول هذا النزاع، هو خصومتهما وتنافر آرائهما حوله. فمن الجانب الأوروبي، يتم النظر إلى إسرائيل باعتبارها دولة خارجة على القانون. أما واشنطن فمن ناحيتها تقدم الأمن الإسرائيلي على ما عداه، حتى وإن كان ذلك على طريقة "العم سام" في توجيه الضربات الاحترازية للآخرين. في هذا الإطار وإثر زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأخيرة لواشنطن ولقائه بالرئيس جورج بوش حيث حصل على أعظم هدية سياسية كان يتوقعها من الولايات المتحدة، أقدم شارون على اغتيال قائد آخر من قادة حركة حماس، هو عبدالعزيز الرنتيسي.
يذكر أن التفويض الذي حصل عليه شارون من بوش، يعد الأعلى على الإطلاق الذي يسمح به القانون الأميركي للرئيس. غير أن اغتيال الرنتيسي أثار ردود فعل، واحتجاجات واسعة النطاق في الساحل الأوروبي من المحيط الأطلسي. وقتها كانت الأنفاس الأوروبية قد هدأت للتو، وعادت إلى طبيعيتها عقب شجبها بصوت واحد، التفويض والموافقة اللذين حصل عليهما شارون، لخطته الأحادية الخاصة بالانسحاب من أراضي الضفة الغربية، وأجزاء من قطاع غزة.
على الصعيد الأميركي، كان جون كيري المرشح الديمقراطي المنافس لجورج بوش في الحملة الرئاسية، منشغلا بتأييد خصمه، في وقفته إلى جانب شارون، والتفويض الذي حصل عليه من واشنطن. يضاف إلى ذلك، أن مواقف كيري لم تختلف عن الموقف الأميركي العام إزاء الاحتلال الإسرائيلي وسياساته، في كل المقابلات التلفزيونية التي أجريت معه مؤخرا خلال حملته الانتخابية الجارية الآن. هكذا فإن الرابح الأوحد من كل المواقف الراهنة إزاء النزاع الشرق أوسطي، هو شارون.
فمن خلال ردود الأفعال الدولية والإقليمية والمحلية، استطاع شارون أن يكسب أفضل ما في هذه المواقف ضعفا وقوة. فقد أثنى على خطة انسحابه المنفرد، كل من الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش، ومنافسه على المنصب الرئاسي جون كيري. أما من جانب فرنسا، فلم يصبه منها سوى الزعيق والصراخ. وفي العالم العربي علت ضده الاحتجاجات بينما سرت تهديدات خافتة مكتومة باتخاذ إجراءات، يعلم العرب عجزهم عن حملها على محمل الجد.
لكن المكسب الإسرائيلي لا يقف عند هذا الحد وحده، إنما يتعداه إلى ما هو أهم، وما لم ينتبه له سواء الذين ثاروا على التأييد الأميركي الذي حصل عليه، أم من جانب الذين أيدوه. ذلك أن موافقة واشنطن على خطة شارون الرامية إلى عدم التقيد بحدود عام 1967، والاحتفاظ ببعض المستوطنات الواقعة في الضفة الغربية، مع حرمان الفلسطينيين من حق العودة إلى ديارهم التي هجروها، إنما يعرب صراحة عن أفكار كان قد طرحها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون منذ عقد اتفاقية كامب ديفيد في يوليو من عام 2000. فوق ذلك، فإن شارون قد حدد اتفاقا مشتركا للتسوية النهائية للنزاع، وفق شروط مسبقة كان قد اشترطها قبله الرئيس كلينتون.
لكن وفي ظل إدارة الرئيس الحالي جورج بوش، فإن ما بقي غير مشروط وفوق كل الشروط، هو أمن إسرائيل، باعتبارها دولة خاصة باليهود. ووراء ذلك التأييد والتعابير التي صيغ بها، تكمن معرفة عميقة بمدى انشغال إسرائيل بالانفجار المتوقع