سحب السفير السابق "تشارلس فريمان" ترشيحه لتولي منصب رئيس مجلس المخابرات القومي الأسبوع الماضي. ومن بين الأعذار التي برر بها انسحابه، اللوبي الإسرائيلي الذي يحول دون تمكنه من الإشراف المستمر على التقارير المعنية بتقويم أداء مختلف الوكالات والأجهزة الاستخباراتية القومية. غير أن كل ما دار من خلاف حول مدى تعرض "فريمان" إلى حملة مسيئة لسمعته المهنية، ليس بعيداً عن الأسباب التي دفعته للانسحاب. لكن هل لا يزال منصب رئيس مجلس المخابرات القومي، يستحق كل هذا الخلاف الذي ثار بسببه؟ كلا على أرجح الاحتمالات. والحقيقة أن جذور "مجلس المخابرات القومي" تعود إلى بدايات خمسينيات القرن الماضي، حيث أنشأ "والتر بيديل" -مدير وكالة المخابرات المركزية حينها- مكتباً للتقويم الاستخباراتي، بهدف التوفر على تحليل استراتيجي بعيد المدى، قصد منه مد الرئيس وكبار مستشاريه بإجماع آراء مختلف الوكالات والأجهزة الاستخباراتية الحكومية. لكن سرعان ما تعثرت تلك الوثائق المسماة بالتقويم الاستخباراتي القومي، وأحاطت بها المشكلات. فمنذ وقت مبكر في بدايات الخمسينيات، تبين أن المستخدمين الرئيسيين لتلك الوثائق هم صغار العملاء الاستخباراتيين الذين يستعينون بها في إعداد التقارير ورفعها إلى رؤسائهم. كما كشفت الدراسة التي أجريت حول الوثائق المذكورة، أن ما يسمى بالتقويم الاستخباراتي القومي، كان متضارباً إلى حد جعل الكثيرين يتساءلون عن كيفية إجماع الوكالات الاستخباراتية على ما يرد في محتواه! ولم يطرأ أي تحسن يذكر على إعداد "التقويم الاستخباراتي" منذ ذلك الوقت وإلى اليوم. وفي الحقيقة لم يكن "التقويم" بالمهنية الاستخباراتية التي تجعل منه ذا قيمة تذكر لأي من المسؤولين وصناع القرار فحسب، بل إنه كثيراً ما أثار الخلافات الخطيرة في الرأي، وأدى إلى تشتيت الجهود، بسبب الانتقائية السياسية التي يسفر عنها. ولك أن تأخذ مثالا على هذا، ما جاء في التقويم الاستخباراتي لعام 2002، حيث راج بسببه الزعم بتطوير العراق وحصوله على أسلحة الدمار الشامل. فعلى رغم أن ستة فحسب من أعضاء الكونجرس اطلعوا على "التقويم الاستخباراتي" إلا إن نسبة 77 في المئة منهم صوتت لصالح تفويض الرئيس باستخدام القوة ضد العراق. ثم تلا ذلك صدور سلسلة من "التقويم الاستخباراتي" حول حرب العراق والحرب على الإرهاب، حوت تضارباً في المعلومات. وأدى هذا بدوره إلى مزيد من الانتقائية السياسية في تفسير المعلومات من قبل معارضي ومؤيدي سياسات إدارة بوش. وفي وقت مبكر من عام 2007، كان مايك ماكونيل -مدير المخابرات القومية حينئذ- قد أعلن أنه لن يكون هناك تضارب في المعلومات الواردة في التقويم الاستخباراتي من الآن فصاعداً. لكنه اضطر إلى التراجع عن ذلك الموقف بحلول شهر ديسمبر من العام نفسه، إثر صدور التقويم الاستخباراتي الخاص بالبرامج النووية الإيرانية. غير أن ما يجب قوله إن الخلافات التي تنشأ بسبب تضارب معلومات التقويم الاستخباراتي، كثيراً ما تغالي في إضفاء أهمية زائدة على هذه الوثائق، في سياق عملية صنع السياسات. والحقيقة التي لا بد من تأكيدها هي أن "التقويم الاستخباراتي" لم يطرأ عليه أي تحسن يذكر منذ صدور أول نسخة منه في عام 1954. وظلت الوثائق الخاصة به، طويلة النصوص إلى حد التعذيب وإثارة الملل أحياناً، مليئة بالعيوب والثغرات والأخطاء، عديمة القيمة والأهمية من الناحية المهنية. ولما كنت قد عملت ضابطاً استخباراتياً أول خلال إدارة بوش، فقد سبق لي أن قدت فريقاً اضطلع بمهمة إجراء مراجعة دقيقة شاملة نصف سنوية للأداء الاستخباراتي القومي. وأثناء تلك المراجعة، توجهنا بالسؤال دائماً إلى كبار صناع السياسات والقرارات: ما هي الوثائق الاستخباراتية التي وجدتموها أكثر فائدة وأهمية لكم في عملكم؟ فكان ترتيب "التقويم الاستخباراتي القومي" إما في ذيل قائمة الوثائق الاستخباراتية المفيدة، أو قبل نهاية القائمة مباشرة. ولمجلس المخابرات القومي دور آخر عدا عن إعداد ونشر وثائق "التقويم الاستخباراتي" بالطبع. وضمن ذلك الدور، يضطلع المجلس بإعداد "دراسات الاتجاهات العالمية" التي تنظر في مدى زمني مستقبلي يتراوح بين 10 أعوام و15 عاماً مقبلة. وربما كانت هذه مساهمة فكرية استراتيجية مثيرة للاهتمام، إلا أنها ليست ذات قيمة تذكر للمسؤولين المعنيين بمواجهة الضغوط وحل المشكلات الآنية، مثل الأزمة المالية الاقتصادية العالمية وغيرها من مشاغل. ختاماً أقول إن المشكلة ليست هي انسحاب الدبلوماسي "فريمان"، السفير السابق لدى المملكة العربية السعودية من الترشح للمنصب، بقدر ما هي عجزنا عن تصحيح أداء المكتب الذي كان سيتولى إدارته، وذلك طوال أكثر من 50 عاماً على إنشائه. مارك إم. لوينثال رئيس الأكاديمية الاستخباراتية الأمنية، نائب رئيس سابق لمجلس المخابرات القومي 2002-2005 ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"