حكى لي أبي، وأنا صغير أدبُّ على الأرض في فرح طفولي زاخر، قصة شيخ العرب همام. تفاصيل لم يبق منها الآن في ذهني شيء، لكنني أتذكر جيداً أن عينيه كانتا تلمعان ووجهه يتشامخ في وجه الريح وهو يسرد جانباً وقر في ذهنه، ونُقل إليه بالتواتر، من سيرة هذا البطل الصعيدي، الذي مرّ في أيامنا كحلم عابر. كان يرفع يده ويقول: جدك عرفني أن زمام التزامه كان يمتد من أسوان إلى المنيا، كانت مملكته تمر هنا تحت أقدامنا. وأهمل المؤرخون، المشغولون بتسجيل أيام السلاطين والملوك، سيرة هذا البطل الكبير، ولم يفرد له الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" سوى صفحة واحدة تقريباً، لكنها مكتنزة وثرية إلى درجة أنها ترسم ملامح شخصية الرجل ودخيلته ورجولته، وتبين أن أبي كان ينسج أسطورة صنعها خيال شعبي توّاق إلى البطولة والفروسية، لكن أحياناً تكون حقائق التاريخ أغرب من الخيال، وهذا ما لم يُعنَ به كاتب المسلسل الأستاذ عبدالرحيم كمال، فهو على براعته في بناء الحوار وقدرته على صناعة حبكة درامية تحمل في طياتها عملاً جذاباً مشوقاً، إلا أنه حرف الوقائع وحاد عن الخط الذي رسمته الأحداث الحقيقية، ولم يستفد كثيراً من التجارب التي أبدعتها أقلام من كتبوا "الرواية التاريخية". ولنعد إلى الجبرتي لنعرف ما جرى في الواقع وليس في المسلسل. يقول مؤرخنا الكبير عن همام: "الجناب الأجل والكهف الأظل الجليل المعظم والملاذ المفخم الأصيلي الملكي ملجأ الفقراء والأمراء ومحط رحال الفضلاء والكبراء شيخ العرب الأمير شرف الدولة همام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همام بن صبيه بن سيبيه الهواري عظيم بلاد الصعيد، ومن كان خيره وبره يعم القريب والبعيد، وقد جُمع فيه من الكمال ما ليس فيه لغيره مثال، تنزل بحرم سعادته قوافل الأسفار وتلقى عنده عصى التسيار، وأخباره غنية عن البيان مسطرة في صحف الإمكان، منها أنه إذا نزل بساحته الوفود والضيفان تلاقهم الخدم وأنزلوهم فـي أماكن معدة لأمثالهـم وأحضروا لهم الاحتياجات واللوازم من السكر وشمع العسل والأواني وغير ذلك ثـم مرتب الأطعمة في الغداء والعشاء والفطور فـي الصباح والمربيات والحلوى مدى إقامتهم لمن يعرف ومن لا يعرف‏. فإن أقاموا على ذلك شهوراً لا يختل نظامهم ولا ينقص راتبهم وإلا قضوا أشغالهم على أتم مرادهم وزادهم إكراماً وانصرفوا شاكرين، وإن كان الوافد ممن يرتجي البر والإحسان أكرمه وأعطاه وبلغه أضعاف ما يترجّاه‏.‏ ومن الناس من كان يذهب إليه في كل سنة ويرجع بكفاية عامه وهذا شأنه في كل من كان من الناس‏.‏ وأما إذا كان الوافد عليه من أهل الفضائل أو ذوي البيوت قابله بمزيد الاحترام وحيّاه بجزيل الأنعام وكان ينعم بالجواري والعبيد والسُّكر والغلال والثمر والسمن والعسل، وإذا ورد عليـه إنسان ورآه مرة وغاب عنـه سنين ثم نظره وخاطبه عرفه وتذكّره ولا ينساه‏.‏ وحاله فيما ذكر من الضيفان والوافدين والمسترفدين أمر مستمر على الدوام لا ينقطع أبداً‏". ويرسم الجبرتي هنا ملامح رجل بلغ من الكرم حدّاً واسعاً، يمكن أن تضرب به الأمثال على غرار ما جرى مع حاتم الطائي، فنقول "كرم حاتمي" ويمكن أن نقول "كرم همامي". ولكن قيمة الكرم ليست هي الخلاصة المعبرة عن تجربة هذا العربي الكبير، وإنما قيمة الطموح السياسي والشجاعة، التي جعلت أهل الصعيد يحنون إليه، ويستدعونه كلما ألمت بهم المصائب، ويتحدثون عن مشروعه السياسي الذي قتلته الخيانة، كلما ضاقت بهم الظروف، وشعروا بغبن شديد من إهمال الدولة المصرية الحديثة لشؤونهم، وتحيُّزها ضدهم في توزيع الموارد، ويرددون ما ذكره جمال حمدان في موسوعته الأثيرة "شخصية مصر": "إذا كانت الدلتا قد أمدّت مصر بالمال، فالصعيد أمدها بالرجال" متمثلين في سيرة شيخ العرب وغيره من رجال الصعيد الأشداء الأفذاذ، الذين تحولوا إلى أساطير يتغنى بها الناس. ووراء قصة شيخ العرب همام دلالات لا تنتهي، فهو من قبيلة جاءت من المغرب العربي أيام الفاطميين، لكن أصلها يمتد إلى جزيرة العرب قبل أن يرحل رجالها الأوائل إلى الغرب هرباً من الظلم السياسي. ومن هنا تبرهن قبيلة "الهوارة" ليس على البعد العربي العميق لمصر فحسب، ولكن أيضاً على التواصل البشري لسكان المنطقة الشاسعة الممتدة من المحيط إلى الخليج، والكامن في رحم التاريخ القديم والوسيط، لاسيما إن تعمقنا في الدراسات التي تثبت أن الفراعنة وصلوا إلى جزيرة العرب، وأن بعض الأديان التي كانت سائدة فيها قبل الإسلام ذات جذر مصري قديم. وتبقى المسألة الأكثر مرارة في قصة شيخ العرب همام هي الخيانة، التي جاءته من أقرب الناس إلى نفسه، وهو ما ترويه لنا كتب التاريخ قائلة: "راسل محمد بك أبو الدهب، إسماعيل أبو عبدالله ابن عم همام واستماله ومنّاه برياسة البلاد حتى ركن إلى قوله وصدق تهويماته وتقاعس وتثبط عن القتال وخذل طوائفه ولما بلغ شيخ العرب همام ما حصل ورأى فشل القوم خرج من فرشوط وتركها بما فيها من الخيرات وذهب الـى جهـة أسنـا فمات في بلدة تدعى قمولة رحمه الله‏، مكموداً مقهوراً. ووصل محمد بك ومن معه فرشوط فلم يجدوا مانعاً فملكوها ونهبوها وأخذوا جميع ما كان بدوائر همام وأقاربه وأتباعه من ذخائر وأموال وغلال وزالت دولة شيخ العرب همام من بلاد الصعيد في عام 1769 كأنها لم تكن". لقد غطى الغزو الفرنسي لمصر عام 1798 ومشروع محمد علي الذي بدأ في عام 1805 على حكاية شيخ العرب همام، وجاءت الدراما في رمضان المنصرم لتنبش عنها وتعيدها إلى الواجهة، وتقدم للعرب المعاصرين أمثولة غنية بالعظات والعبر، وعاها قبل نحو قرنين أبو التنوير العربي الحديث رفاعة رافع الطهطاوي فقال في كتابه الشهير "تخليص الإبريز فى تلخيص باريس": "..ولكن لما كانت الرعية لا تصلح أن تكون حاكمة ومحكومة وجب أن توكل عنها من تختاره منها للحكم وهذا ما حصل في زمن حكم الهمّامية فكانت الصعيد جمهورية التزامية".