عرفتُ برهان غليون الكاتب في أواخر السبعينات ومطالع الثمانينات من القرن الماضي من خلال رسالتيه البارزتين في المشكلة الطائفية، والمسألة الديمقراطية في سوريا. وقد قرأنا وقتها وخلال الثمانينات كتابات عديدة عن المطلب الديمقراطي في سوريا، لكنْ برهان فيما أحسب، كان الرائد الجريء في طرح المسألة الطائفية في ذلك النظام الذي قامت شهرته كلُّها على سمعته القومية "البعثية" المنزَّهة عن الشُبهة الطائفية. وما انطلق بُرهان غليون في طرحه ذاك من أصوله السنية، إذ هو من أُسرةٍ عريقةٍ بمدينة حمص العظيمة والثائرة اليوم وبالأمس، على النظام الطائفي والشعوبي، بل من منطلقٍ قوميٍّ عربي يساريٍّ بالغ الحساسية تُجاه حالة التردي التي استعلت وسادت بعد حدوث كامب ديفيد، وانكفاء مصر، ونشوب الصراع بين النظامين "البعثيين" بسوريا والعراق على ميراث جمال عبد الناصر، والنضال الفلسطيني. وبرهان كما عرفتُ من بعد، حين تعرفْتُ عليه شخصياً في الثمانينات، من ضحايا ومنفيي النظام. ورغم البلاء الشديد الذي نزل به وبأبناء جيله من عهد الأسد، فقد كان من رحمة الله به أنه ما كان" بعثياً" طوال حياته، بل بدأ "يسارياً" قومياً مع رياض الترك، وغادر سوريا تحت وطأة المُلاحقة المعروفة لحركة الترك، فطاف في المنافي ومن الجزائر إلى اليمن الجنوبي فيما أظنّ، إلى أن انتهى به المطاف في باريس حيث أكمل تعليمه، وبرز في البحوث الاجتماعية والسياسية، وهو منذ أكثر من عشر سنواتٍ أُستاذ الدراسات العربية المُعاصرة بجامعة السوربون. ظلَّ برهان غليون خلال السنوات الثلاثين الماضية متوهِّج الفكر والعمل في المجال القومي. وكانت له نشاطات ومبادرات في تطوير الجهد على المستوى العربي العام، وبخاصةٍ في الدعوة للديمقراطية، وفي نُصرة العمل المدني الإنساني، وفي متابعة الكتابة في الأبعاد الدولية للقضايا العربية، وفي تطورات الثقافة والخطاب في الثمانينات والتسعينات. وما غابت عن حركته الدؤوبة القضية الفلسطينية، والحرب أو الحروب على العراق. وهو شأن المفكرين القوميين ذوي الأصول "اليسارية" شديد الشكّ وما يزال في الحركة الدولية وبخاصةٍ التحركات الأميركية والسياسات الأميركية تجاه المنطقة والعرب. وكانت له كتابات ومواقف كثيرة في عُقد ومفاصل الحملات على الوطن العربي، بين العولمة، وصراع الحضارات، وهجمات الولايات المتحدة على العرب في زمن جورج بوش الأب والابن و"المحافظين الجدد". بيد أنّه بين عشرات الدراسات التي أصدرها، يظلُّ بارزاً ورائداً كتاباه العظيمان: الدولة والدين، والدولة ضد الأمة. في الدولة ضد الأمة حَلَّل بطرائق جديدةٍ مشكلة قيام الأنظمة الاستبدادية باسم القومية في الوطن العربي. فالأنظمة القومية الدعوى هذه، هي أنظمةٌ قُطريةٌ بامتياز، وهي عملت على الإمعان في تقسيم المقسَّم وتجزئة المجزأ، واستثارت بالقصد لتثبيت سلطتها الحساسيات الإثنية والمذهبية والطائفية، واغتربت بالقصد عن شعوبها، وارتبطت في الوظائف والأدوار بالخارج الإقليمي والدولي، فما أنشأت دُوَلاً ولا حكمها منطق الدولة، بل منطق السلطة الخالدة أو التي تريد أن تخَلُدَ ليس عبر التوريث وحسْب؛ بل وعبر الرموز التقديسية لشخوص الحكام وتصرفاتهم. وعبر عقدين أو ثلاثة من السطوة والقمع، فقدت تلك الأنظمة كلَّ الموروث الثقافي والسياسي القومي الذي أوصلها للسلطة بالانقلاب. فهذه الأنظمة ليست سلطات طُغيان بإلغاء السياسة في مجتمعاتنا وحسب، بل هي طغيانيةٌ حتّى في الثقافة، بحيث إنّ المشكلة معها صارت مشكلةً أخلاقيةً أيضاً. أمّا في كتابه الضخم: الدولة والدين، فإنّ غليون كشف في تأمُّلٍ متفحصٍ ونقديٍّ أوليات وآليات التجربة الدينية في المجتمعات الغربية والمشرقية، وركّز على تطوراتها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية قديماً وحديثاً، وصولاً إلى نشوب الصراع بين الدين والدولة في الوطن العربي المعاصر. فقد اعتدت السلطات المتقومنة على الدين بطريقتين: طريقة شديدة العمق والفداحة حين أعطت للأيديولوجيا القومية سمات دينية تقديسية، انتهت إلى اعتبار الحاكم هو الدين وهو الدنيا- وطريقة أُخرى ظاهرة وذات أبعاد سوسيولوجية حين همَّشت وبالقوة الرموز والمؤسسات وصولاً للتعرض لكرامات الأفراد وشرفهم الديني. وبذلك فقد أنتجت تلك الأنظمة تمرداً دينياً متطرفاً أو عجائبياً، وقوَّى ذلك الحزبيات الدينية التي انصرفت إلى تسييس الدين ماضيةً في الاتجاه الذي سلكته السلطات لكن بطرائق معكوسة. لقد تصور الإسلاميون الدين باعتباره دوغما حاكمة أو ينبغي أن تحكم، مثلما تصور الحكّام سلطاتهم القومية الخالدة. وهكذا فكما غيَّرت الأنظمة وظائف الدولة ومهماتها لتدخل في صراعٍ مع المقدَّس محاولةً الاستيلاء عليه، انتقم المقدَّسُ لنفسه بمحاولة استلاب سلطات الدولة باسم الدين، فتعطَّل الأمران أو تصارعا تصارُعاً دونكيشوتياً: صار الحاكم إماماً، وصار الإسلاميُّ الحزبي حاكماً باسم الدين لو بالرغبة. وهذا هو البُعْدُ العميقُ للإسلام السياسي، الذي سلب من الدين إمكانياته الروحية، وأخلاق الثقة والوداعة والطمأنينة فيه. صار غليون في العشرين سنةً الماضية، أحد أبرز المثقفين العرب، سواء لجهة الأطروحات النظرية الكاشفة، أو لجهة القراءة النقدية لمشكلات وقضايا الفكر والعمل في المجال العربي المُعاصر. بيد أنّ إدراكه المبكّر لمهمات المثقف العربي في زمن الحرب الباردة وما بعدها، أبقى على الطابع النضالي لكتاباته ومداخلاته ومواقفه. فالثقافةُ عنده إضاءة وموقف. والعروبةُ عنده انتماءٌ كبيرٌ للأمة ورؤيةٌ للعالم لا تنفصلان. ولذلك ظلَّ هناك موضوعان رئيسيان ما غابا عن كتاباته الأكاديمية والسياسية المباشرة: الديمقراطية في الوطن العربي، والوجود العربي ومشكلاته في العالم. ولذلك عندما طلبتُ منه قبل سنتين أن يكتب مقالةً للكتاب التذكاري بمناسبة بلوغي الستين، اختار أن يُهديني دراسةً بعنوان: الاستثناء العربي والمسألة الديمقراطية. والطريف والاستشرافي في تلك المقالة التي أعتزُّ بها أنه بدأها بحديث أنصار بوش والتدخل الأميركي بالعراق عام 2003 عن ربيعٍ عربيٍّ أنجزه الأميركيون بقواهم العسكرية وأساطيلهم، وقد اعتبر تلك الدعاوى فجراً كاذباً، وختم المقالة المذكورة بالأمل والثقة بربيعٍ عربيٍّ قريبٍ، وفجرٍ صادقٍ للأمة العربية وللديمقراطية التي تصنعُها شعوبها وليس الأميركان والحكام! لقد كان من حظّنا بعد أن هَرِمْنا أن نشهد ثقة غليون ابن حمص العظيمة، بنهوض الأمة، تتحقق. كما كان من حظّي شخصياً أن أشهد وأُتابع بحماس الشباب مشاركة غليون المبدعة في الثورة السورية الكبرى من أجل النهوض والكرامة والديمقراطية. فغليون مع كوكبةٍ من المثقفين السوريين العرب الكبار، لا يشاهدون ويتابعون فقط نضالات شباب الربيع العربي، بل يصنعون مع نساء وأطفال وشيوخ وشباب سوريا، أعظَم ثورات هذا الزمن العربي الجديد. لقد شهد الأسبوع الأخير من شهر رمضان أمرين مهمين: بيان الجامعة العربية بشأن الثورة في سوريا، وتشكيل المجلس الوطني الانتقالي السوري، الذي نرجو أن يُخلِّص هذا البلد العربيَّ الكبير من أهوال الديكتاتورية وفظائعها على سوريا وعلى العرب وعلى إنسانية الإنسان.