نشأت الدولة المصرية القديمة في رحاب الدين، وكانت شعائر الملكية ورسومها ذات سمت ديني، وكان الملك يؤله في حياته، وبعد مماته، ليصبح الدين هو قوام الدولة، فالملك يقيم عبادة الآلهة، ويرعاها ويحرس البلاد، ويكفل رخاء أهلها. وهو في نظر المصريين الأقدمين الضمان الأكيد لاستقرار نظام الكون واستمرار الحياة، ولذلك شارك الناس، عن اقتناع تام، في بناء قصوره ومعابده، ومقره الأبدي على شاكلة تعبر عن مدى إيمانهم بعظيم منزلته. من ثم كانت الأهرامات تعبيراً مادياً واضحاً لمدى قدسية نظام الحكم الملكي في مصر القديمة، وكانت اللغة آنذاك مشبعة بما يعبر عن "ألوهية الحاكم" فحين يتوج أو يظهر في مناسبة عامة يقال "أشرق الملك"، أو "أطل من عليائه"، وعند مماته يقال صعد الملك إلى السماء لينضم إلى موكب إله الشمس. وبات كل ما يتصل بالملك مقدساً مهما كانت قيمته، فتيجانه وصولجانه وكل شاراته مقدسة. بل وصل الأمر إلى حد اعتقاد المصري القديم في أن "العالم الآخر" بالنسبة للملوك يختلف عن عامة الناس، فالملوك إن ماتوا صعدت أرواحهم إلى السماوات العلا، أما العوام فإن قضوا فمثواهم باطن الأرض. وقد خصصت "متون الأهرام"، التي ليس لها مثيل من كتابات عن العالم القديم، لتشرح سعادة الملك في الدار الآخرة، وكيف تصور المصري القديم أن الملوك سيحتفظون بعد موتهم بالسلطان نفسه الذي يتمتعون به في الدنيا. فها هي تقول "الملك تيتي لم يمت موتاً بل جاء معظماً في الأفق".. "هيا أيها الملك، إنك لم تسافر ميتاً، بل سافرت حياً". ثم تمضي لتوضح حجم الحزن على رحيل الملك: "السماء تبكي من أجلك، والأرض تزلزل من أجلك"، فإذا استقر الملك في السماء "يشاهد في قاعة قصره وهو جالس على عرشه العجيب وصولجانه المدهش في قبضته، ثم يرفع يده نحو أولاده ليقفوا أمام هذا الملك، ثم ينزل يده مشيراً نحوهم فيجلسون ثانية". ووصل الأمر إلى حد تطويع الدين في خدمة السياسة، فعلى سبيل المثال، نجد أن الأحداث السياسية التي مرت بها مصر وانتهت بوحدتها نهائياً عام 3200 ق. م أفضت إلى سيادة معبود رئيسي، هو معبود الإقليم المنتصر، غير أن الكهنة، أتباع الآلهة المحلية، وآلهة الأقاليم المهزومة، لجأوا إلى حيلة تحول من دون اندثار معتقداتهم بانزواء آلهتهم، بإعلان أن آلهتم مجرد أقانيم للإله الرئيسي، لا تختلف معه في الجوهر، أو تلعب هذه الآلهة دور الزوجة أو الابن لهذا الإله. وحتى يضمن الملوك استمرار هذا الاعتقاد وترسخه، جعلوا المعابد تحت سلطانهم. فكان الملك يعين كبار الكهنة للمعابد الكبرى، وهو الذي يشرف، من خلال جهازه الإداري الخاص، على أعمال المباني والإنشاءات الخاصة بالمعابد، ويدير ممتلكاتها من الأراضي والقطعان، وله الحق في التفتيش على خزائنها. لكن ينبغي ألا نعتقد أن الملك كان إلهاً لدى المصريين القدماء مثل بقية الآلهة، تُشيّد له المعابد، وتقدم له القرابين، فلم يصل تأليه الملوك إلى هذا الحد، ولم تعد مناداته بـ"الإله الطيب" أو "حوريس" أو "ابن رع" أو "الشمس الحية" أو "لسان أتوم"سوى طريقة مهذبة في التعبير عن الخضوع التام له، ولسلطانه، حتى إذا شاع الاستعمال اللفظي لتلك الألقاب، بدأت مع مرور الزمن تفقد الإحالة إلى معانيها الأصلية، أو تنفصل عن الأسس والجذور اللغوية والاعتقادية التي نبتت منها. وعلى وجه العموم كان للملك في مصر القديمة سمات خاصة، في نظر رعاياه وما يصوره المقربون منه عنه، وما يشيعه هو عن نفسه، وكان لهذه السمات تأثير مباشر على الحياة السياسية في البلاد خلال القرون الغابرة. ويمكن ذكر هذه السمات على النحو التالي: 1 ـ هو شخصية إلهية مقدسة، ولذا لا يصح أن يخاطبه أحد مباشرة، وإن كان يجوز له أن يتحدث في حضرته، من دون أن يوجه له الكلام، أو يدنو منه، ولا حتى من ظله المتمتع هو الآخر بالقداسة. ومعنى هذا أنه لا يمكن معارضة الملك، مهما كانت سياسته خاطئة أو ظالمة. 2 ـ يتمتع بعلم إلهي، يجعله عالماً بكل خافية. ومن ثم لا يمكن لأحد أن يفكر في التآمر عليه، أو تشكيل تنظيم معارض له، لأن الملك سيكشف هذا التنظيم، ويعاقب من يشكلونه. 3 ـ كل ما يتفوه به واجب النفاذ، ولا بد أن يتحقق فوراً، لأن مشيئته هي القانون، ولها ما للعقيدة الدينية من قوة. ولأن الملك منزه عن الأخطاء والآثام، فلا يكون أمام المصري من خيار سوى أن يخر خاضعاً له، مطيعاً لأوامره. 4 ـ في وجود الملك لم تكن هناك حاجة إلى مؤسسات سياسية، فما ينطقه يغني عن القواعد القانونية المفصلة، وما يراه يختزل الكثير من أدوار الهيئات السياسية والاجتماعية. ومن الخطيئة سن ما قد يقيد من سلطة الملك وجبروته، ولذا كان القضاة يحكمون حسب الأعراف والتقاليد المحلية التي يرون أنها توافق الإرادة الملكية، وقد يغيرون هذه الأحكام إن شاء الملك ذلك، لأنه مصدر التشريع، الذي يجب أن يحكم القضاء باسمه. 5 ـ هناك تسليم جماعي بأن الإرادة الملكية لا تفعل إلا خيراً، ولا تسعى إلا إلى كل ما هو مفيد، ولذا لا يجب معارضة مشيئتها، أو الافتئات على الاقتناع التام بأنها همزة الوصل الوحيدة بين الناس والآلهة، والذي يعرف رغبة الأخيرة، ويعمل على تحقيقها. ولم يوار هذا التصور الثرى تماماً مع ملوك الفراعنة الذين رحلوا في الأزمنة الغابرة، ولم يتضاءل ليصبح مجرد تاريخ انقضى، بل أعيد إنتاجه، بأشكال مغايرة ودرجات أخف، طيلة التاريخ المصري. ففي "عهود الإيمان"، التي أتبعت نزول الرسالات السماوية، مارس أغلب المصريين مع حكامهم أنواعاً من "الشرك الخفي"، حين أضفوا عليهم مهابة ومكانة، ما استحقها إلا القليلون منهم، والأدهى والأمر حين تعاملوا معهم على أن بيدهم كل مقاليد الأمور، وراحوا ينافقون الضعيف منهم، ويكيلون له المديح، فيقوى ويتجبر عليهم، فيصبرون عليه. وقد بدأت رحلة تهشيم هذه الصورة التاريخية مع ثورة يناير، إذ لم يعد الحاكم بمنأى عن النقد اللاذع والتجريح والسخرية والمحاسبة، ولا هيبة له إلا بقدر حب الناس له وإقناعهم به، وعمله من أجلهم.